الطريق إلى الديكتاتورية
على غرار "الطريق إلى العبودية"، الكتاب الصغير الذي ألفه الفيلسوف والاقتصادي النمساوي الأميركي فان هايك (1899 - 1992) عام 1944، ويعاد إحياؤه منذ سنوات، كان عنوان هذه المقالة التي سوف تتأثر به كثيرا، لأنها تعتقد أن تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد سوف يجعل منها دولة ديكتاتورية. وعلى الرغم من أن هايك كان يعتبر زعيم المدرسة النمساوية في الاقتصاد، وأصبح من أكبر المنظّرين الاجتماعيين والفلاسفة السياسيين طوال القرن العشرين، لم يلق الكتاب عند نشره الاهتمام اللائق، لأن أفكار كينز كانت المهيمنة على الفكر الاقتصادي في مرحلة ما بعد الأزمة العالمية الكبرى لعام 1929، وكانت تتلخص في تدخل الدولة، من دون تحديد دقيق له، تدخل من أجل معالجة مشكلة البطالة التي ضربت العالم، والتي خصص لها كينز جل كتابه "النظرية العامة في العمالة والفائدة والنقد"، والذي يبين فيه قصور النظرية البرجوازية التقليدية، ويقدّم عوضا عنها نظرية جديدة، اعتبرت تدخليةً في الاقتصاد، لمعالجة مشكلة التشغيل. وأثارت أفكار كينز التدخلية فزع هايك، وتوقع نتائجها الكارثية في هيمنة الفكر "الجماعي" على الاقتصاد، ما حمله على إصدار مؤلفه "الطريق إلى العبودية"، الذي يعتقد فيه أن النزعة الأيديولوجية التدخلية الجماعية الاشتراكية الديمقراطية هي التي قادت وتقود إلى الشيوعية والنازية والفاشية، وأنها الخطر القادم على مستقبل القيم الفردية التي تستند إليها الحضارة الغربية.
الفردية فطرة إنسانية معلنة ومقدرة في الحضارة الغربية، ولكنها مخفية ومنكرة ومدانة لدى الشعوب الأخرى التي تتستر "بالجماعية"
هل يمكن القول مع هايك إن العدالة والمساواة تنهزم في المواجهة أو التماهي مع أطروحات "الجماعية" و"التدخلية" و"التوجيهية"؟. وهل يمكن القول، بوضوح أكثر، إن العدالة والمساواة انهزمت، وتنهزم أمام تدخل الدولة واستحواذها على الإنتاج والتوزيع، بمعية القطاع المسمّى "عاما"، وبالتالي تغوّل الأجهزة البيروقراطية والحزبية والأمنية على السوق، وبالتالي عرقلة تحقيق العدالة والمساواة بين المنتجين والمتدخلين في النشاط الاقتصادي. تعرف الدولة أن السوق وحدها، إذا ضبطت بشكل صحيح، تحقق العدالة للناس جميعا، والسوق وحدها هي التي لا تسمح للمتغولين بالسرقة والكسب الحرام والإثراء على حساب العمال والمنتجين. الإنسان يولد حرا ولكنه يُستعبد بالاقتصاد، أو بتدخل الدولة في الاقتصاد الذي يجعل منها دولة فاسدة، قوية أمنيا، وضعيفة إنتاجيا، وديكتاتورية سياسيا.
إذا كانت الأيديولوجيات والنظم الجماعية باسم "الحقوق الجماعية" هدّدت، كما يعتقد هايك، الحضارة الغربية، فإنها هدّدت حياة الناس بالعوز والفقر والمجاعات في المجتمعات الناشئة، لأن الفردية فطرة إنسانية معلنة ومقدرة في الحضارة الغربية، ولكنها مخفية ومنكرة ومدانة لدى الشعوب الأخرى التي تتستر "بالجماعية"، وتمارس في الواقع كل موبقات المصلحة الفردية.
تدخل الدولة الوحيد المدان هو التدخل المباشر في الاقتصاد، لأنه الذي يقوّي الاستبداد، ويسبب بالتالي كل الكوارث
هل كل تدخل للدولة في الاقتصاد مدان؟ يجيب هايك بأن تدخل الدولة الوحيد المقبول في الاقتصاد هو من أجل ضمان المنافسة التي هي ضمان الحرية، وبالتالي هي ضمان ما سمّاها الترجمة الاقتصادية للقيم "الفردية الليبرالية الصافية".
ربما كان على هايك أن يكون أكثر دقّة، ويضيف أن تدخل الدولة الوحيد المدان هو التدخل المباشر في الاقتصاد، لأنه الذي يقوّي الاستبداد، ويسبب بالتالي كل الكوارث التي نعرفها، بدءا من التفاوت في الدخل وانتهاءً بالسلال الغذائية وبطوابير الناس على أفران المخابز ومحطات الوقود.
ما يهمنا من هذا الحديث: كيف يتطور التدخل المباشر في الاقتصاد إلى ديكتاتورية في السياسة؟ هذا ما حدث في المشرق العربي بعد الاستقلال، تحت شعارات الاشتراكية والعدالة والقطاع العام والاقتصاد الموجّه، حيث بدأت الدول الفتية بتأميم وسائل الإنتاج وجعلها ملكية عامة، تتحكّم بها الدولة والحزب والحاكم الذي يتحول سريعا إلى واحد أوحد، ويسلم إدارة الإنتاج إلى الموالين والأتباع الذين يؤدّون له الولاء ويتقاسمون معه الغنائم. تدخل الدولة هو ببساطة من أجل فرض سلطتها على الإنتاج والمنتجين والسوق، والتخلص من الأحرار المنافسين. هكذا تقوى الدولة وتتغول، وتتحوّل تدريجيا إلى دولةٍ بوليسيةٍ، تتحكم بالسوق والثروة والبلاد والعباد.
لا شيء يحبط طاقات الناس أكثر من تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد
إعادة الاعتبار للسوق والمنافسة واليد الخفية هي إعادة الاعتبار للإنسان وعقله وطاقاته ومبادراته الخلاقة. لا شيء يحبط طاقات الناس أكثر من تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد، لأنها، بذريعة الحرص على الأمن الاقتصادي وعدالة توزيع الدخل وتوفير حاجات الناس، تنتزع حريتهم وتتركهم بلا أمن ولا حرية. ولا يعني هذا الكلام أن الدولة حيادية، ويعفيها من مهامها، المتمثلة أساسا في مراقبة السوق وضمان الشفافية والمنافسة والمساوة، ورسم السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، وتحقيق التنمية بإقامة المشروعات الكبرى، والقيام بمهامها الاجتماعية المتعلقة بتوفير العمل وحماية العمال وتوفير الصحة والتعليم والسكن.
سؤال أخير يتداعى سريعا: هل يمكن دمج نظام السوق مع التدخل المباشر في الاقتصاد؟ أو بمعنى آخر، هل يمكن دمج نظام السوق مع الاقتصاد الموجّه؟ عودة مرة أخيرة إلى صديقنا هايك، لنجد أنه يرفض بقوة الدمج بينهما، لأن الدمج، في رأيه، سوف يقضي على مزايا كلا النظامين، إذ من المستحيل الدمج بين "الاستبداد الاقتصادي" و"الحرية السياسية". وهذه حقيقة، فكل الدول التي دمجت، خصوصا الصغيرة، تحولت إلى دول دكتاتورية وتلاشت، أو في طريقها إلى التلاشي.