العالم... من وعود السلام إلى مديح الحرب

29 أكتوبر 2024

نجا المهداوي

+ الخط -

تناول مقال عنوانه "شرق المتوسط... غرب الجحيم" ("العربي الجديد"، 8 /9/ 2020)، لكاتب هذه السطور، استراتيجية "تجنُّب الحرب" التي تحكّمت بدرجة كبيرة في العقل السياسي الأوروبي خلال عقود مضت. وتنبأ بأن "تجنُّب الحرب" يمكن أن يكون نفسه سبب نشوبها. وهذا ما أكّدت صحّته لاحقاً الحرب الروسية على أوكرانيا، ولكن ما كان مفاجأة أكبر أن الحرب غيّرت العقل السياسي (وبخاصة الألماني) باتجاه التخلّي عن هذه الاستراتيجية، التي أسفرت عن عواقب أبعد مدىً، وأوسع نطاقاً، من العواقب العسكرية والسياسية المباشرة.
وفي مقالٍ تالٍ؛ "ألمانيا تودّع استراتيجية تجنُّب الحرب" (العربي الجديد"، 28 /1/ 2023) تناول الكاتب تقريراً أصدره آنذاك معهد كونراد إديناور الألماني المرموق، ورسمت أستاذة التاريخ العسكري والتاريخ الثقافي للعنف في جامعة بوتسدام، البروفسورة سونكي نيتزل، صورة شديدةَ الوضوح لما تغيّر. وبحسبها، أحدث غزو أوكرانيا "تغيّراً جذرياً في التهديد المتصوّر لناسٍ كثيرين في أوروبا"، وكان عليهم "مواجهة أسئلة الحرب والسلام التي بدت جزءاً من الماضي"، وكثيرون واجهوها للمرّة الأولى في حياتهم. والجديد مقال بتوقيع الأمير مايكل، أمير ليختنشتاين، خلاصته أن "الجبن" يهدّد الأمن. وليختنشتاين إمارة أوروبية صغيرة استقلّت عام 1866 عن الاتحاد الألماني، وتقع في أوروبا الوسطى، تحدّها غرباً وجنوباً سويسرا، وشرقاً النمسا، ومساحتها 160 كيلومتراً مربّعاً.
نشر المقال في موقع Think Tank يملكه ويديره الأمير (GIS)، وبحسب التعريف المنشور في موقعه يركّز "في تقديم خدمات تعتمد على الاستخبارات". وإذا كان مقال الأمير ينطلق من الموقف الغربي من الحرب الروسية الأوكرانية منطلقاً للتحليل، إلا أنه يتّصف بقدر كبير من العمومية، متجاوزاً هذه الحرب. وبحسب الأمير: "يتطلّب حلّ النزاعات الشجاعة، ومحاولة تجنّب التصعيد من خلال المماطلة ستؤدي إلى العكس". وفي لهجة تقريرية يقول كاتب المقال إن: "من يسمّون بالقادة خائفون من التصعيد، ولسوء الحظّ فإن التصعيد طبيعة الحرب". وتلعب موسكو بهذه الورقة وتنجح.

غمر عالم الجنوب/ الشرق طوفان من أدبيات استهدفت وصم ما هو خارج الغرب بالبربرية، وبالميل المتأصّل للعنف، وهي أكذوبة تصدّعت في الحربَين العالميتَين، وتنهار اليوم تماماً في غزّة

ويستحضر الأمير بشكل انتقائي لحظات من التاريخ الغربي، ليؤكّد صحّة القضية الرئيسية في المقال، و"لو أظهر الملك جورج السادس وونستون تشرشل ضعفاً مماثلاً في عام 1940، لكان من الممكن أن ينجح هتلر"، وهو يضيف أن قيمة أسهم الدفاع في الأسواق الأوروبية انخفضت مع شائعات حول قرب إجراء مفاوضات لوقف إطلاق النار، "ويبدو أن الافتراض أن السياسيين في عواصم أوروبا سوف يعودون إلى سياسة النعامة، متجاهلين الأسباب الجذرية للحرب". وفي مقارنة مهمّة جدّاً تحت عنوان فرعي؛ "إظهار التصميم"، يقول الأمير: "رغم أن سفك الدماء أمر مؤسف، فإن إسرائيل تظهر تصميماً على ترسيخ أمنها والدفاع عنه"، وهناك مطالبات لإسرائيل بالتوقّف، ويدَّعى الأمير أن ما يسمّيه "المظاهرات المعادية للسامية" تروّج حتى في أميركا وأوروبا في الحرم الجامعي وفي الشوارع. وفي الختام يكتب: "إنني أنظر إلى الوضع بقلق بالغ. وأشعر أيضاً بالخجل إزاء افتقار أوروبا إلى التصميم على الدفاع عن حرّيتها".
والمقال، في تقدير كاتب هذه السطور، يتجاوز قالبه المهني التقليدي، وبخاصّة من زاوية الصفة الرسمية لكاتبه. وممّا يلفت النظر فيه إحساسه العميق بالمرارة بسبب فشل "سردية الخطر الإيراني" في تحريك مظاهرات مناهضة لإيران، وهي ملاحظة تبلغ الغاية في الأهمّية، وتعني بوضوح أن سردية "أذرع إيران"، لم تستطع أن تزيح السردية الفلسطينية؛ المأساة عمرها سبعة عقود.
وكاتب المقال وهو يستنسخ قلب السردية الإسرائيلية: "الدفاع عن النفس" يبدي أسفاً باهتاً على سفك الدماء، وغنيّ عن البيان أن إبداء الأسف شيء مختلف تماماً عن الإدانة. والمقال لا يمثل رِدّةً عما يزيد عن نصف قرن من الرهان الأوروبي على "تجنّب الحرب" فقط، بل يمثّل بالقدر نفسه رِدّةً أوسع نطاقاً عن وعود غربية (أوروبية وأميركية) بحقبة سلام عالمي تغنّى بها الفلاسفة، وصوّرتها اليتوبيات بدءاً من القرن الثامن عشر، وحفلت بها وثائق دولية عديدة كانت تدور حول مقولة "المركزية الأوروبية"، بما كانت توحي به من إيحاءات مفعمة بالتفاؤل بهذه القيادة (العقلانية التنويرية الرشيدة) للعالم.
ولقد غمر عالم الجنوب/ الشرق طوفان من الأدبيات استهدفت وصم ما هو خارج الغرب كلّه بالبربرية، وبالميل المتأصّل نحو العنف، وهي أكذوبة تصدّعت في الحربَين العالميتَين، واليوم تنهار تماماً في غزّة.