"العدالة والتنمية" المغربي والحاجة للنقد الذاتي

25 نوفمبر 2020
+ الخط -

على مقربةٍ من الاستحقاقات السياسية التي سيشهدها المغرب العام المقبل، يشهد حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، تململا داخل صفوفه يجسّده نقاش داخلي محتشم، بدأ للتو يتفاعل في صمتٍ بين قواعده، وخصوصا شبيبته، وكانت إحدى تمظهراته الاجتماع، أخيرا، في إطار ما سميت "مبادرة النقد والتقييم" التي أطلقتها مجموعة من شباب الحزب ومناضليه، يدعون إلى عقد مؤتمر استثنائي لمراجعة مسار حزبهم. ومما رشح عن الاجتماع تصريحات منسوبة للنائبة آمنة ماء العينين، المعروفة بجرأتها في الجهر برأيها، عندما اعترفت بأن قدرة الحزب على ملء الفراغ السياسي تراجعت. وعلى الرغم مما في هذا الكلام من مبالغة، إلا أنه يبقى اعترافا قويا من داخل الحزب بتراجعه داخل الساحة السياسية. من دون أن يُنسى أنه لولا الفراغ السياسي الذي أحدثه إنهاك "الاتحاد الاشتراكي" نهاية الألفية السابقة، لما كان للحزب الإسلامي الشأن الذي له اليوم، فالحزب هو الذي استفاد من الفراغ وليس العكس.
وكان يجب انتظار عام 2011، والظروف الاستثنائية التي أوجدها "الربيع العربي"، لتتهيأ الفرصة للحزب الإسلامي الوحيد المعترف به رسميا في المغرب لتقوية وجوده داخل الساحة السياسية المغربية بحسٍّ براغماتي لا يخلو من انتهازية، ونجح زعيمه السابق، عبد الإله بنكيران، في أن يقوده، وهو على رأس الحكومة، لخوض تحدّيات ومعارك سياسية حصّنت وجوده، وحققت له مكاسب سياسية ما زال الحزب يعيش على إرثها، من قبيل فوزه الساحق في انتخابات 2015 و2016، وحفاظه على قيادة الحكومة نحو عشر سنوات، وهذه أطول مدة يقضيها حزب سياسي مغربي على رأس الجهاز التنفيذي. وفي المقابل، فشل الحزب في الحفاظ على استقلالية قراره، أو على الأقل في جعل هذه الاستقلالية علامته التجارية، كما كان يسعى إلى فعل ذلك بنكيران، والفشل الكبير الذي ظل يلاحق الحزب محاولته الجمع ما بين ثقة الشعب وثقة القصر، وفيما فشل زعيمه السابق في كسب ثقة القصر، ها هو الحزب تحت قيادته الحالية يواجه خطر فقدان ثقة الشارع في الاستحقاقات المقبلة!

اعترفت النائبة آمنة ماء العينين، المعروفة بجرأتها في الجهر برأيها، بأن قدرة حزب العدالة والتنمية على ملء الفراغ السياسي تراجعت 

مرّ "العدالة والتنمية" بمحطاتٍ مهمةٍ هزّته من الداخل، وما زالت ارتداداتها تتفاعل في صمت داخل قواعده، من دون أن تجرؤ هياكل الحزب، أو أحد قياداته، أن تطرح سؤال النقد الذاتي. وكان آخر مؤتمر شهده الحزب عقب إعفاء الملك محمد السادس رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، من منصبه، وتصويت برلمان الحزب على عدم تعديل قانونه الأساسي، وبالتالي رفض التمديد لولاية ثالثة لبنكيران، أكبر تحدّ واجهه الحزب. وبدلا من أن يكون ذلك المؤتمر محطّة لحسم الخلافات داخل الحزب، تحول إلى محطة انطلقت منها خلافاته الصامتة التي ما زالت تتفاعل داخله، وإحدى إرهاصاتها الأصوات التي ترتفع اليوم داخل صفوفه تطالب بمؤتمر استثنائي لتقييم تجربته وإعادة النظر في مساره.

مرّ "العدالة والتنمية" بمحطاتٍ مهمةٍ هزّته من الداخل، وما زالت ارتداداتها تتفاعل في صمت داخل قواعده

وسكوت قيادته، اليوم، أو تغاضيها عن الأصوات المنتقدة من الداخل، يفسّره بعضهم نوعا من الهروب إلى الأمام، لأنه لن يؤدّي سوى إلى تأجيل المشكلات وتعاظمها، في انتظار لحظة انفجارها في وجه الجميع، تماما كما حصل في "الاتحاد الاشتراكي" الذي كان أكبر حزب في المغرب، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الحالية. ثم بسبب أخطاء كثيرة ارتكبتها قياداته، ورفضها ممارسة النقد الذاتي في المحطات الرئيسية التي طبعت تاريخ الحزب، تراكمت الأخطاء التي سرّعت في تفجير بيته من الداخل، وفي تآكل قاعدته الشعبية، حتى انتهى إلى حزبٍ صغير لا يشكل أي فارق يذكر داخل المعادلة السياسية في المغرب. ويكاد هذا الكلام ينطبق اليوم على "العدالة والتنمية" الإسلامي الذي يسير على خطى الحزب الاشتراكي الذي كان يصفه مناضلوه بـ"الحزب العتيد"، وكانت في صفوفه تياراتٌ طالبت بإعادة النظر في مشروعه وممارساته وقياداته ونوعية تواصله مع محيطه، وترتفع داخل صفوفه أصواتٌ كانت تجرؤ على ممارسة الاختلاف والجهر به، حتى لو أدى بها ذلك إلى الطرد من الحزب أو الانشقاق عنه. فما بالك بالحزب الإسلامي الذي يرفع شعار "الرأي حر والقرار ملزم"، وهو ما يفرض نوعا من الانضباط الحديدي على أعضائه، بل وحتى على قياداته، عندما يصبح القرار نافذا، ولو كان "ديكتاتوريا" مفروضا من فوق.

يرفع الحزب شعار "الرأي حر والقرار ملزم"، وهو ما يفرض نوعا من الانضباط الحديدي على أعضائه، و قياداته، حتى لو كان القرار "ديكتاتوريا"

لقد تحوّل الحزب، خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة، إلى رقم عادي داخل المعادلة السياسية الحزبية المغربية، مشروع بدون رهانات سياسية كبرى، اللهم التي تشغل بعض قياداته ومناضليه في الوصول إلى مناصب أو تحقيق طموحات شخصية. أما الشعارات الكبيرة التي رفعها الحزب، وهو يقف في وجه الحراك الشعبي في المغرب عام 2011 زمن "الربيع العربي"، محاربة الفساد ومواجهة ما كان يسميه زعيمه السابق "التحكّم"، فأصبحت جزءا من الماضي المنسي للحزب... وتوجد اليوم أمام الحزب فرصة أخيرة، قبيل استحقاقات المغرب العام المقبل، لفتح نقاش واسع داخل صفوفه، والاستماع إلى الآراء المعارضة لنهجه من الداخل والخارج، وهي فرصة أيضا لإعادة النظر في منهجه واختياراته قبل فوات الأوان.
جملة القول، على الحزب الإسلامي الوحيد في المنطقة العربية الذي حافظ على وجوده على رأس الحكومة في بلاده، أن تكون له القدرة، في هذه المرحلة، على أن يحدّد، بكل وضوح، طبيعة المشروع المجتمعي المستقبلي الذي يستطيع من خلاله كسب ثقة القوى الحية في البلاد، وأن يبلور عرضا سياسيا مقنعا يجيب عن أسئلة المرحلة المقبلة وتحدّياتها. وفي المقابل، ما ينتظر الحزب، في حال اختارت قيادته الهروب إلى الأمام، سيكون أسوأ مما أصاب أحزابا مغربية عريقة تحولت إلى أعجاز نخل خاوية.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).