العراق بعد 18 عاماً من الاحتلال
نستذكر، كما كل العراقيين والشرفاء في العالم، جريمة غزو العراق واحتلاله في ذكراها الثامنة عشرة، فرغم كل المزاعم والأكاذيب التي روّجها المعتدي لتبرير جريمته، إلّا أن معظم العراقيين تعاملوا مع مجريات الأحداث منذ وقوعها على أنها احتلال، وأنه لن ينتصر. وفعلاً، أثبتت الأحداث والأيام أن لا صحة لأي من مسوغات الحرب، وباتت عملية احتلال العراق والموافقة عليها مُعيبة للسياسيين الأميركيين، تستوجب الاعتذار للشعب الأميركي عنها عند الترشّح لأي منصب رفيع، وخصوصاً رئاسة الولايات المتحدة. السبب الحقيقي لاحتلال العراق كان تقزيم دوره. ولذلك كانت القوة المفرطة التي استخدمها الغزاة توحي بأن الهدف لم يكن كسب الحرب بين طرفين غير متكافئين تماماً، وإنما تدمير العراق تدميراً كاملاً. ولكي يتحقق ذلك، كان لا بد من وجه آخر للعدوان العسكري المباشر، وإسقاط نظام الحكم القائم، ذاك الوجه ما أطلق عليه "المعارضة العراقية في الخارج"، والتي خصّص لها الكونغرس الأميركي مئات الملايين من الدولارات، وظفت لإنشاء محطات إذاعية ومعسكرات تدريب وسواها، لتهيئة هذه "المعارضة" وإعدادها لتتولى حكم العراق، وبالتالي القيام بواجبات إعادة العراق إلى ما قبل عهد الثورة الصناعية، وحشره في زوايا الظلم والظُلمة والتخلف والحرمان، كما وعد جيمس بيكر وزير خارجية جورج بوش الأب خلال لقائه في جنيف وزير خارجية العراق، طارق عزيز، في 9 يناير/ كانون الثاني 1991.
كرّست العملية السياسية إنتاج ما سميت الطائفية السياسية في العراق، واعتماد المحاصصة، بوابة واسعة للاستئثار بالسلطة
جاء الغزاة في مثل هذه الأيام ليُدخلوا العراق، بكل حضاراته وثرواته، في غياهب التخلف وضياع السلطة القادرة على بسط الأمور في البلاد، وإدارة دفّة المعالجات الخاصة بكل مناحي الحياة، فجيء بأسماء لأشخاصٍ وأحزابٍ وتكتلاتٍ كان غرضها الأوحد تمزيق ثوابت شعب العراق الوطنية، وزرع الفتنة والحواجز بين أبناء الوطن الواحد. تؤكد مصادر كثيرة مقتل أكثر من مليونين و400 ألف عراقي خلال سنوات الغزو وأعمال العنف التي أعقبته، وأكثر من خمسة ملايين مهجّر في الداخل والخارج، بالإضافة إلى مئات آلاف من المعتقلين والمغيبين، وهذه الأرقام في تصاعد، والعالم، كل العالم، يتغافل عن ذكرها، أو الإعلام عنها، وكأن العراق بات خارج دائرة التغطية تماماً.
كرّست العملية السياسية التي مثلتها مجاميع "المعارضة العراقية في الخارج" ما كانت تريده واشنطن، وما اتفق عليه في مؤتمر لندن، ومن قبله اجتماعات أربيل، بإنتاج ما سميت الطائفية السياسية في العراق، واعتماد المحاصصة، بوابة واسعة للاستئثار بالسلطة، وطغيان المصالح والأنانيات الفردية والفئوية، وإحلالها بديلاً للدولة ومؤسساتها، وإطلاق المليشيات الطائفية الولائية لقمع المعارضين ونشر الإرهاب والفوضى، بديلاً عن الأمن والسلم المدني.
شهدت السنوات الثماني عشرة الماضية مناسبات كثيرة، رفض فيها الشعب العراقي الواقع الفاسد
لقد تحوّل العراق، خلال عقد ونصف، إلى نموذجٍ لاستفحال الفشل الإداري والفساد في كل مفاصل الدولة، وأدى إلى هدر ثروات العراق الهائلة، وإلى توقف تام لأيٍّ من مظاهر التنمية، وانهيار الخدمات، وتفشّي الأوبئة، وزوال الصناعة العراقية، وضعف الزراعة، وارتفاع معدلات البطالة، وتغيير المناهج الدراسية بما أضعف وبقوة قدرات الأجيال الناشئة على مواكبة التطورات في وسائل التعليم ومواده.
شهدت السنوات الثماني عشرة الماضية مناسبات كثيرة، رفض فيها الشعب العراقي الواقع الفاسد، أو طلباً لحقوق دستورية وإنسانية، فكانت دائماً هناك اعتصامات واحتجاجات شعبية وتظاهرات وغير ذلك، لكن "انتفاضة تشرين" عام 2019 كانت الأكثر وضوحاً في تأثيرها على مجمل العملية السياسية، فقد قدّم شباب العراق نموذجاً فريداً للوعي المتقدّم، كما أثبت فشل سياسات الترويض والترغيب والترهيب التي مارستها أحزاب السلطة ومليشياتها، فكانت ثورة مجلجلة اضطر العالم للاعتراف بها، بما قدّمه شباب العراق من تضحيات كبيرة بالأرواح وبالدم، وبالحالة السلمية للاحتجاجات التي حاربتها السلطة بكل وسائل القوة المُفرطة.
العراق اليوم من بين أكثر عشرة بلدان فساداً في العالم، ومدين إلى عدة دول بما يزيد عن 140 مليار دولار
العراق الذي تهدر طاقاته وأمواله الهائلة بسبب استشراء الفساد وسوء الإدارات بكل مستوياتها، وصل إلى حافة الإفلاس، والغرق في الأزمات الاقتصادية والديون. ويأتي هذا التوصيف غالباً من داخل العملية السياسية العراقية، حتى إن بعضهم يصف حالة الانهيار الاقتصادي في العراق بأنها أخطر وأهم من حالة الانهيار الأمني أو الخدمي، فالعراق اليوم من بين أكثر عشرة بلدان فساداً في العالم، ومدين إلى عدة دول بما يزيد عن 140 مليار دولار، فيما تنهب الزعامات الحزبية السياسية والتكتلات الأخرى عشرات المليارات من الدولارات سنوياً. والأزمة الاقتصادية الحالية ناتجة عن أسباب عدة، جميعها مرتبطة ببعضها، فتدهور قطاعات الصناعة والزراعة أدّى إلى ازدياد هائل في معدل الاستيرادات، بما جعل العراق سوقاً مهمة لصادرات إيران وتركيا والصين، من دون أن يجد المواطن العراقي أي منتج محلي، مهما كانت بساطة إمكانية إنتاجه.
حلم تحقيق الديمقراطية الموعودة التي رفعتها الإدارة الأميركية قبل الاحتلال والغزو وبعدهما أوجد واقعاً جديداً في العراق، لا هو بالديمقراطي، ولا هو بالديكتاتوري، لأن مشكلة العراق الرئيسة هي قدرة الأطراف الخارجية على التحكّم بمشاهده، حتى أصبح، ولفترات طويلة، بؤرة للمجاميع الإرهابية والمليشيات المسلحة وغير المنضبطة. وقد يكون من المفيد جداً أن يدخل العرب بقوة على خط التأثير على مراكز القوة وصناعة القرار في العراق، لأن هذا الإجراء سيدعم الخط المطالب بعودة العراق إلى محيطه العربي، مع الحفاظ على توازناته الإقليمية والدولية.