العراق... صدعُ "الإطار" فرصةُ السوداني
يسهل أن يجسَ المرءُ في نبض المالكيين (أنصار رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي وأتباعه) امتعاضَهم مِن رئيس الوزراء الحالي محمد شيّاع السوداني. هم في وضعِ تململٍ مِن إدارة السلطة، أو يمرّون بحالة حنين للزعامة.
ربما يُعزى الأمرُ راهناً إلى الانتخابات المحلية (مجالس المحافظات) المزمع إجراؤها في نهاية العام الحالي. هناك عدم انسجام في المواقف داخل التحالف الشيعي البرلماني الرئيسِ، الإطار التنسيقي. بينما تبدو كتلةُ دولة القانون بقيادة المالكي، وهو أهمُ رموزِ الإطار، رافضةً تأجيل الانتخابات، تُستشف رغبةُ التأجيل مِن حلفائه في كتلة الفتح ذاتِ الذراع المليشياوي الطولى (الحشد الشعبي). هذا ليس سوى مظهر راهن لأزمة أبعد، عنوانها التنافسُ على قيادة المشهد الشيعي إثر انسحاب الصدريين من البرلمان في أواسط العام الماضي.
يسود شعورٌ أن الجامعَ المشترك داخل الإطار أنه نموذجُ شيعيةٍ سياسية شديدُ الطائفية. هذا صحيح نسبيا، إلا أن النموذج الطائفي ليس جامعاً كافياً يمنع النزاع. لم تفلح التحالفاتُ الطائفية للسنية السياسية، كما الشيعية، في منع الشقاق. الكردية السياسية أيضا عاشت صراعاتها الخاصة ولا تزال. حصرُ تفسيرِ الحال بالطائفية والقومية فهمٌ مستعجل وقائمٌ على افتراضات مسبقة. وحتى لا يتشعّب الحديث، لنضع الكلام عن السنّية السياسية والكردية السياسية جانبا لمناسبات أخرى.
لم تفلح التحالفاتُ الطائفية للسنية السياسية، كما الشيعية، في منع الشقاق
ليس كافياً الجامعُ الطائفي للشيعية السياسية بنسختها "الإطارية"، أي بنسختِها الحاويةِ أهمَ القوى السياسية الدينية المنتمية للطائفة باستثناء الصدريين. سيكون الانفراطُ، وربما الصراعُ، سريعاً لولا عامل رادع. خطرُ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على منافسيه الشيعة مانعٌ أهم لانحلال عقدِ المالكي مع حلفائه الحاليين في كتلة الفتح. الاثنان يخشيان الصدر المستقيلَ ظاهريا. هو يخشاهم بطريقته. أكثرُ ما يخيفه أن يحول منافسوه دون تحقيق حلمِه بالهيمنةِ على قرار الطائفة السياسي على أقل تقدير. أما همْ، فيُفزعهم أن يصبحوا أقليةً سياسية أمام أكثريته المكتسبةِ من وحدة جمهوره وقدرتِه على تنظيم أصواتهم وتوزيعِهم بما يضمن عدم التفريط بأي صوتٍ وسْط ضياعِ مئاتِ آلاف الأصوات، بفعل عدم تنظيم القوائم الانتخابية أو طبيعةِ نظام الاقتراع.
لإيران ثقلُها على هؤلاء. لكنّ أكثرَ من تجربة سابقةٍ تُفصح عن إخفاقِها في الحيلولة دون تفاقم نزاعات حلفائها. في انتخابات عام 2010 النيابية، عملت طهران على إقناع المالكي بالانضواء في قائمةٍ موحّدة للطائفة على غرار اقتراعَيْ بدايةِ سنة 2005 ونهايتِها، إلا أنها فشلت بعد إصراره على تأسيس قائمته الخاصة. حدَث ذلك أيضا في انتخابات 2014 وما تلاها. علاوة على هذا، تحاول إيران أن تلعب على التناقضات العراقية لضمان أمريْن، الإبقاءِ على الشيعية السياسية في احتياج دائم لها، وإبقاءِ البلاد، بصورة عامة، في حالة اعتلالٍ سياسيٍّ يعطيها فرصة المحافظة على نفوذ. ملفّا الكهرباء والغاز، حيث تغذّي طهران بهما بعض المناطق العراقية، ظلا دائما ورقةَ ضغطٍ عند الخشيةِ من تغريدِ بغداد بعيدا. مثلا، قطعت الكهرباء عن البصرة بحجّةِ الديون في صيف عام 2018. خطوةٌ مثلُ هذه في صيف لاهب كانت كفيلةً بسد الطريق على رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي للحصول على تحالفٍ يبقيه في منصبه، خصوصا مع اندلاع احتجاجات البصرة في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه بسبب الطاقة. لقد دفع العبادي ثمنَ محاولتِه التقرّبَ أكثر من واشنطن والالتزام ببعض العقوبات الأميركية على طهران.
مكافحة المليشيات ضربٌ من الخيال راهنا، ما دامت المؤسسةُ الأمنية وجزءٌ من المؤسّسة العسكرية يعانيان من طابع مليشياوي
في الوقت الحاضر، الصدعُ داخلَ الإطار التنسيقي نموذجٌ لنزاعاتٍ صعبٌ على طهران احتواؤها. هو في بداياته نابعٌ مِن خلافٍ على المكاسب داخل حكومة محمد شيّاع السوداني. من جانب آخر، يبدو أن السفارة الأميركية في بغداد ونوري المالكي في فترة وئام أكثر من السنوات العشر الماضية، خصوصا بعد استقباله مرّتين السفيرة ألينا رومانوسكي. هذا يثير خشيةَ الجماعاتِ المسلحةِ المتطرّفة التابعة لإيران، في مقدمها كتائب حزب الله، ويؤدّي بالتالي إلى إحراج جماعة العصائب الشريكة في السلطة. من جانب ثالث، هناك سيكولوجية المالكي الظانِ أنه أبو التجربة الشيعية بعد 2010. شعورٌ تفاقم لديه بعد وفاةِ زعيم المجلس الأعلى السابق عبد العزيز الحكيم، وانسحابِ القوات الأميركية، وفوزِه الساحق في انتخابات المحافظات عام 2009، والمساهمةِ في تأسيس مليشيات لمواجهة مقتدى الصدر، وصولاً إلى قرار تشكيل الحشد الشعبي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. هذا الرجلُ، ذو النزعة القبلية والمزاج الكيدي، نظَر إلى نفسه، وخلفَه حشدٌ من الأنصار والشخوص، عمادَ الواقعِ السياسي. لا يمكن له مع هذه السيكولوجية تخيّلَ كونِ جماعةِ العصائب بوصلةَ القرار، وأن يصبح مركزَها رئيسُ وزراء مثل السوداني المسمّى إلى الأمس القريب "رجلَ المالكي". هناك أيضا طموحُ زعيم العصائب قيس الخزعلي، الباحثِ عن نفوذ عالٍ يجعله منافساً للصدر على إرْث مؤسّس "المذهبِ" الصدري، المرجع محمد الصدر (اغتيل عام 1999). بالطبع، يبدو الطموح واهما، لأن الخزعلي لا يقود سوى حفنة شباب من حاملي السلاح مدفوعين بعقائد متطرّفة أو ارتزاق. ولولا الدعم الإيراني لانحسر. الدليل على ضعفه أنه لم يحصل على كثيرٍ في انتخابات 2021، ولو لم يستقل الصدريون من البرلمان لما ورث مع بقية حلفائه في كتلة الفتح (الحشدِ الولائي) كل تلك المقاعد.
هنا، يبرز اسمٌ يقف في ظلال المالكي، يرمي نبالَه في النزال، صهرُه ياسر صخيل المالكي، الدينمو في نشاط حماه من خلال "حركة البشائر" ذات النفوذ شبابيا في "دولة القانون". إنه طرفٌ مؤثر في صراع ممهِدٍ لصدام بين جيل مواليد السبعينيات من قادة الشيعية السياسية: مقتدى الصدر وقيس الخزعلي وعمّار الحكيم، إضافة إلى ياسر المالكي. وحرق الصدريين في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، مقرّ حركة البشائر في كربلاء صورة فاضحة عن مستقبل التنافر.
وسط هذا، مثيرٌ للحيرة رئيسُ الحكومة السوداني، بلا مؤشّرات عملية على إرادة القيام بخطوات جادّة مستفيدا من الصراع. إنه يكتفي بالاحتماء بالعصائب، وهذا خطيئةٌ سياسيةُ وتكرارُ أخطاء. الارتماء في حضن قوة تمتلك مليشيا ينتهي بعارٍ أو فشل. فعَلَها العبادي مع الصدريين فابتلعوه، وعادل عبد المهدي مع الحشد "الولائي" فلوّثوا يديه بدماء المحتجّين والناشطين، ومصطفى الكاظمي مع الصدر فتخلى عنه. هناك فرصة جادّة للخروج من هذه الدائرة، والتفكير بصيغة رجل دولة، وليس مجرّد رجل سياسة.
إذا اعتقد السوداني أنه قادرٌ على البقاء في منصبه طويلاً بصيغة لاعب سياسي، فهو مخطئ
إذا اعتقد السوداني أنه قادرٌ على البقاء في منصبه طويلا بصيغة لاعب سياسي، فهو مخطئ… ظنّ سابقوه فذهبوا بلا عودة. لن يستطيع البقاءَ طويلا، لكن بمقدوره فعلُ شيء استنادا إلى توازن أن الجميع يخاف الجميع. هناك خطواتٌ استراتيجيةٌ أساسيةٌ داخليةٌ وخارجيةٌ مطلوبة، لا تبدأ بتعديلاتٍ وزارية، لأنها رهنٌ لطبيعة النظام البرلماني، بل تنطلق من أدائِه وظيفته الواضحة: إدارةَ السلطة التنفيذية. هل يؤدّي وظيفته أم أنه مشغولٌ بالمعركة الخفيّة بين الأحزاب المؤلفة للحكومة؟ مثلا، فُرضت على بنوكٍ عديدة عقوبات أميركية، لأنها متورّطة بغسل أموال وتهريبها إلى طهران وموسكو … ما هي خطوات السلطة التنفيذية تجاه بنوكٍ أهلية تزيد من سوء سمعة البلاد أمام العالم؟ مثلا، أيضا، أن مكافحة المليشيات ضربٌ من الخيال راهنا، ما دامت المؤسسةُ الأمنية وجزءٌ من المؤسّسة العسكرية يعانيان من طابع مليشياوي. هل لدى السوداني تصورٌ عن كيفية معالجة مشكلة المؤسّستين. لا طبعا، على العكس، سمح لحلفائه بأن يعيّنوا شخصياتٍ مليشياوية لقيادة بعض تلك المؤسّسات.
في حالة السوداني، مثلما سلفه الكاظمي، التصدّعات فرصةٌ للقيام بوظائف السلطة التنفيذية. لأن الأحزاب المشاركة في الحكومة تخشى فشل التجربة، منذ عصفت بها احتجاجات 2019. فضلا عن أن إيران نفسها بحاجةٍ إلى العراق أكثر من أي وقت مضى، رغم أن بيدها ملفّات كثيرة. للعصائب، حليفة طهران، مكاسب تدرك أن سقوط الحكومة يذهب بها. لا يريد نوري المالكي حاليا دفع الأمور إلى فشل يعيد الصدر إليه. فضلا عن هذا، الاستقرار الاقتصادي والأمني الراهن النسبي هو أهم أسباب عدم اندلاع احتجاجات واسعة. إنها عواملُ إيجابية مساعدة في عمل الحكومة، توفّرت للكاظمي أمثالها فلم يستفد منها كثيرا، وها هي حاليا متوفرة من جديد، وتستدعي رجل دولة وليس ظِلَ آخرين أو مجرّدَ لاعبٍ سياسي أو دكتاتوراً يريد ابتلاع الآخرين. أخشى أنها ليست على مقاس السوداني.