العراق وأميركا نحو "شراكة مستدامة"... ولكن!
الخلاصة التي خرجنا بها من لقاء رئيس حكومة العراق محمد شيّاع السوداني برئيس الولايات المتحدة جو بايدن أن البلدين مقبلان على اتّباع صيغة "الشراكة الثنائية" في علاقتهما التي تعتمد على تفعيل "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" في مجالات السياسة والدفاع والطاقة والصحة والاتصالات والقضاء، والتي لا تعدو أن تكون إعادة إنتاج لما هو حاصل منذ الغزو الأميركي للبلاد، وقد بشّرتنا بمردوداتها مهندسة العلاقات بين البلدين سفيرة أميركا لدى بغداد ألينا رومانوسكي، ووصفتها بأنها ستكون "شاملة" و"مُستدامة"، أي أنها ستتعامل مع كل شؤوننا، وتعالج كل مشكلاتنا، وقد تبقى معنا طول العمر. وطيّبت رومانوسكي خواطرنا، إذ أخفت عنا أن هذه الشراكة ليست متكافئة ولا عادلة، وإنما هي "شراكة" مفروضة من قوة غاشمة احتلّت بلدا، ونصّبت على حكمه من تراه يحقّق مصالحها، وحيث جعلت البلد لا حوْل له ولا طول، وليس بين حكّامه من يجرؤ على أن يعترض، أو حتى أن يناقش.
عرضت رومانوسكي علينا أيضا في سياق ما سمّتْها "مقالة رأي" جردة بأصناف ما قالت إنه يمثّل "الدعم المستدام والحيوي" الذي قدّمته بلادها إلى العراقيين على مدى الأعوام السالفة، ووثقته بأرقام عن ملايين الدولارات التي صرفتها في العراق خدمة لمواطنينا في مجالات بناء القدرات الأمنية، وتنمية المجتمعات المحلية، وإطلاق مشاريع جديدة وفرص عمل، وبناء مدارس ومستشفيات ومرافق مياه، ودعم النازحين، والتطوير التكنولوجي... إلخ.
وبالطبع، اكتشف العراقيون مبكّرين أن حصيلة هذه "الجردة" هي صفر على الشمال، ولم تدرّ عليهم لا سمنا ولا عسلا، بل ما حصل في الأعوام العشرين التي مرّت من مآس وآلام وانتهاكات ودمار شامل في كل مرافق الحياة والمجتمع يفوق ما حدَث لشعوبٍ أخرى تعرّضت لحروبٍ أوعمليات غزو أو احتلال، وما تقوله المنظمات الدولية المتخصّصة يدحض ما أشارت إليه رومانوسكي، إذ وضعت منظمة الشفافية الدولية العراق، في أحدث تقرير لها، على قائمة "الدول الأكثر فساداً، والأقل شفافية"، حيث يغذّي الفساد العنف والصراع، ويعرّض حياة المواطنين العاديين إلى مخاطر.
إلى ذلك، تعمّدت رومانوسكي أن تسرّب لنا معلومة لتذكّرنا بمنة بلادها علينا، عندما قالت إن دولا طرقت باب العراق، معلنة عن بدائل لما تعرضه الولايات المتحدة، لكن السفيرة ترى أن أيا منها لم يقدّم للشعب العراقي بقدر ما تفعله الولايات المتحدة كل يوم، ولا يمكن لأيٍّ منهم أن يقدّم للعراق شراكة متكافئة ومتساوية تربط العراق بالعالم وتعزّز ازدهاره مثل أميركا!
مآس وآلام وانتهاكات ودمار شامل في كلّ مرافق الحياة والمجتمع
نفهم من "مقالة الرأي" هذه التي كتبتها رومانوسكي، السفيرة التي تريد أن تضع بصماتها على الخطوط الحمر في بلادنا، كما فعلت سابقتها "صانعة الملوك" مس بيل في زمن الإنكليز، أنها تؤكّد ما هو مؤكّد من دون أن تدري، وهو أن العراق وقع، رغما عنه، في شراك قوّتين غاشمتيْن، أميركا التي احتلته، وإيران التي هيمنت عليه. وهكذا وجد العراقيون أنفسهم في دولة مختطفة، ولا خلاص، ولا حتى أمل في انتزاعها من خاطفيها إلا من خلال مشروع وطني شامل يضمن حقوقهم في بلدهم، ويحقّق لهم طموحاتهم ورغباتهم وأحلامهم، ولكن هذا الخيار لا تزال تكتنف تحقيقه صعوبات، فلا أميركا في وارد ترك العراق لأبنائه، وهي التي خسرت في حربها آلاف الجنود، وأنفقت أكثر من تريليون دولار، وعينها على ثرواته وموارده، ولا إيران يمكنها، في ظل دولة "الولي الفقيه" أن تفكّر في التخلي عن مشروعها العرقي الطائفي الذي تعتبر بغداد، من خلاله، غنيمتها الكبرى التي سعت إلى الاستحواذ عليها منذ هزمها الإسكندر المقدوني قبل الميلاد بثلاثة قرون، وتعتبرها اليوم واحدة من عواصمها.
يبقى رهان بعضهم على إمكان إصلاح الحال وصولا إلى تغيير المآل من داخل "العملية السياسية" الماثلة، وهو رهان خاسر هو الآخر، وقد أثبتت تجربة الأعوام العشرين المرّة فشل دعوة كهذه، فحتى بعض من رفع راية التغيير من ثوار تشرين، ودخل البرلمان لم يتمكّن من التصدّي للمشكلات التي يعاني منها مواطنوه، وبعضهم أخذتهم ماكنة الفساد، وحوّلتهم إلى "مسامير" ملحقة بها.
وفي ظل كل هذه التداعيات المفروضة، نكون قد وقعنا في المحذور، وأصبحت حلول مشكلاتنا في عهدة قوى إقليمية ودولية وليست في أيدينا، ومن دون أن نجد طريقاً واضحاً للخلاص، هل نفهم من هذا أن علينا أن نستسلم، ونرضى بالقسمة الضيزى، وبما يخطّط لنا من دون مناقشة أو اعتراض؟