"العربي" وأردوغان وآيا صوفيا: ابتذال المعارك
اشتعلت المعركة بحركاتٍ تافهة، مصدرها بضعة عابثين على شواطئ الفراغ، وسرعان ما تحوّلت إلى قصفٍ بالمدفعية الطائفية الثقيلة، يستهدف أطرافًا أخرى، لم تكن حاضرةً لحظة الاشتعال، وربما لم تكن على علمٍ به أصلًا.
في تراث الحارة المصرية، وقبل ذلك، في تاريخ الخيمة الجاهلية، حروبٌ طاحنة من هذا النوع، ابتدأت بشخبطة أطفالٍ على الجدران، وانتهت بدماء، إذ سرعان ما تنفلت الأمور، فتموت الحقيقة، وتنتحر قيمٌ ومعانٍ مثل الموضوعية والنزاهة والفروسية وشرف الخصومة، حيث تحضر أطرافٌ أخرى، تحدث جلبةً وضجيجًا في زحام خانق، لتكون البيئة مناسبةً لأعمال القنص والنهش والافتراس، فيكون الاستثمار سيد الموقف.
العركة المنصوبة منذ أسبوع بسبب شخبطةٍ مبتذلةٍ وثقيلة الظل وجدت في صخب مهرجانات الاحتفال بمسجد آيا صوفيا مناسبةً للاستثمار في وضاعة الفكرة وضحالة المعنى، على طريقة صناعة أفلام إجازة الصيف، وموالد سينما الأعياد، بتلك التوليفة الرخيصة من إفيهات التحرّش والمعاكسات السمجة، ليأتي رد الفعل منفلتًا هو الآخر وعنيفًا، ليصبح الشعار المرفوع: لنغلق دور العرض بالجنازير ونحرق صناعة السينما، ونرجم العاملين فيها.. ليس هذا فحسب، بل يذهب هذا الفريق الأخير إلى أبعد من ذلك في ادّعاء أنه الفن النظيف والموقف الصحيح، ولابد وحتمًا من أن يطهّر الساحة مما عداه، وينقل العركة إلى ضرورة اجتثاث كل من يخالفه الرأي والمنهج والمنحى.
هنا بالضبط مربط الفرس: المطلوب استئصال شأفة الفريق الأول وإعدام قياداته، معنويًا وأخلاقيًا، لتخلو الساحة للفريق الثاني، لكي يؤلف لنفسه تاريخًا ونضالًا مزيفيْن، ويخترع لذاته أدوارًا لم يسمع بها أحدٌ من قبل.
في الاشتباك الحاصل بين فريقين، أحدهما يدّعي، كذبًا، أنه فيلق التنوير والحداثة وحرية التعبير، والآخر يزعم إنه المكلف من السماء والأرض بالدفاع عن هوية الأمة وقيم الثورة وحياض العقيدة. في هذه المعمعة، تدهس الهوية والثورة والعقيدة والفكرة، بينما الصراع كله يدور على قاعدة "إما نحن.. أو الآخرون"، وكأن الكون لا يتسع للاثنين، والحياة لا تستقيم إلا بإفناء أحد المعسكرين ليبقى الآخر.
المثير للأسى أن المعركة الجارية الآن، والتي اندلعت نتيجة شخبطةٍ عبثيةٍ على حوائط "السوشيال ميديا"، هي اجترار وتكرار لمعركةٍ دارت بالأسلحة ذاتها، واشتعلت للأسباب عينها، وبالأشخاص أنفسهم قبل عام مضى، على وقع حلقةٍ تلفزيونية مبتذلة ظهر فيها الدعي الفارغ أحمد صبحي منصور على شاشة "التلفزيون العربي" ليهرف بأباطيل وأكاذيب تاريخية وفقهية فجّة، وانتهى الأمر بالاعتذار عن الخطأ وحذف المحتوى الذي أثار الامتعاض.
غير أنه تبين في ذلك الوقت أن المسألة ليست مجرّد احتجاج عنيف على محتوى تلفزيوني سخيف، بل كان الهدف إحراق المحطة التلفزيونية نفسها، ورجم القائمين عليها، ونسفهم نسفًا واقتلاعهم اقتلاعًا من المجال العام، واستئصالهم سياسيًا وإعلاميًا. وبالطبع انزلق الاستئصاليون إلى استعمال افتراءاتٍ سخيفة، انحدرت بالهجوم على عزمي بشارة (وهو مفكر ومناضل معروف، ومواقفه معروفة لهم أيضًا) إلى حضيض المعايرة بأنه من عرب فلسطين الرازحين تحت الاحتلال، والحاملين جنسيته، قسرًا، من دون أن ينتبه فيلق حُماة الدين والعقيدة أنه بذلك يطعن في عروبة ووطنية نحو مليون وستمائة ألف فلسطيني من المرابطين في القدس والبلدات الواقعة تحت سلطة الاحتلال، متمسّكين بهويتهم وانتمائهم الحضاري، مسلمين ومسيحيين، بمواجهة محاولات الاحتلال طمس معالم تاريخ فلسطين، كما كتبت في ذلك الوقت.
هذه المرّة، يتخذ ما يتضح أنه حملة منسقة، طورًا أكثر جنونًا، لتنتقل إلى محاولة النيْل من عزمي بشارة، واستهداف المشروع الإعلامي المهني المنحاز لقضايا الإنسان العربي، لكن الأكثر جنونًا أن يحاولوا استثارة عصبية قطرية، متناسين أن محاولات استثارة عصبية كهذه جرت في الماضي ضد قناة الجزيرة وفشلت، ومتناسين بحماقة أنهم ليسوا أوصياء لا على قطر ولا على أميرها. هل جرى هذا كله لأن واحدًا من عشرات، بل مئات الكتاب الذين ينشرون في "العربي الجديد" نشر تغريدة سخيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل سخرية مبتذلة من أردوغان، وتهين الشعب التركي المحتفل بسعادةٍ، لأسباب قومية وعقدية، بإعادة افتتاح آيا صوفيا مسجدًا، وهي السعادة التي شاركته فيها القطاعات الأوسع من الأمة الإسلامية؟ بالطبع لا. فموقف "العربي" و"العربي الجديد" المتضامن مع تركيا كان واضحا. وتصيّد المواقف والحفريات على وسائل التواصل لا تجري بهدف النقد والمعرفة، بل بغرض النيْل من المشروع فقط لأنه لا يشبههم، ولأنه نجح.
لا أدري إن كان هؤلاء الذين انحدروا إلى تعيير مناضل ومفكر عربي بأصوله يملكون الشجاعة ليعلنوا بوضوح أنهم لا يقبلون بوجود مسيحيين عرب في حياتنا أم لا، لكن ما أدركه يقينًا أن هؤلاء الذين يحرّضون على الرجل، كونه مسيحيًا وفلسطينيًا من عرب الداخل، يشنقون أنفسهم بالحبل ذاته، ذلك أن عزمي بشارة استضافته الدوحة قبل أن يفتك به الاحتلال الصهيوني، كما استضافت آلافًا غيره، ومثلها فعلت تركيا باستضافة ملايين العرب، قبل أن يفتك بهم الانقلاب العربي وتغتالهم الثورات المضادّة، ومن هؤلاء من يطرح خطابًا يسيء إلى كل من الدوحة وأنقرة، ويعرّض مصالحهما للخطر، قبل أن يسيء لمن يزعمون أنهم الخصوم.
مؤسفٌ أن هؤلاء لا يرضون بحد أدنى من الاختلاف الأيديولوجي والتنوّع الفكري والثقافي، هم ضحايا بيئات ونظم سياسية لا تقبل بالاختلاف أو بالتنوع أو بأي شكلٍ من أشكال الخطاب المغاير لما تفرضه حكومات الطغاة بالحديد والنار. لكن المؤسف أكثر أن هؤلاء يتحوّلون شيئًا فشيئًا، ومن دون أن يشعروا، إلى عبء سياسي وحمل ثقافي وحضاري ثقيل وباهظ على حكومات الدول التي تستضيفهم وتؤويهم، بهذا الخطاب التكفيري التخويني البائس، الذي يستبيح المختلفين معهم سياسيًا وفكريًا، ويستسهل توزيع اتهاماتٍ باطلةٍ بالعمالة والجاسوسية، على نحو يدين الذين يستضيفونهم، قبل أن يدينهم. كيف يصدّق الناس هؤلاء حين يطالبون بالديمقراطية؟
تخيّل أن دولة مثل قطر، كانت قاب قوسين أو أدنى من الفوز برئاسة منظمة التنوع الثقافي الأكبر في العالم (اليونسكو)، وتستعد لاستقبال أكبر تظاهرة رياضية على وجه الأرض (كأس العالم) مطلوب منها، وفق منطق محبّيها الزائفين، ألا تسمح أن يوجد على أرضها صاحب فكر مخالف لتوجهاتهم (وهي بالمناسبة توجّهات أقلية في مجتمعاتنا)، سواء أكان صاحب هذا الفكر مسلما أم مسيحيا، ويساهم بجهده وفكره في مشاريع بحثية وفي مشروع إعلامي ثقافي تنويري.. أو أن يقرّر لها أمثال هؤلاء ماذا تدعم أو لا تدعم.. يا للهول!!
الفريق ذاته، الخائف على الإسلام والهوية، إلى حد الرغبة في افتراس كل من يختلف مع الرئيس التركي، لم يلفت نظره أن أردوغان، بالتزامن مع احتفالات آيا صوفيا، شارك في افتتاح أكبر أديرة تركيا التاريخية في مدينة طربزون، لكنهم لم يهتموا بالأمر، وكأنهم خائفون على عقيدتهم وهويتهم، ووسامتهم النضالية الاصطناعية.
مرّة أخرى، بعضهم حريص على إشعال هذا النوع من المعارك التي توفر مساحاتٍ لكائنات طحالبية نشأت وتترعرع في مناخات الفتنة، ويحوّلون كل خلاف إلى حروب عبثية يؤجهها صغار يلهون بمولوتوف الابتذال، فيجلبون الإساءة للجميع.