العرب ونتائج الانتخابات التركية
تعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية حدثاً سياسياً دولياً بامتياز، نظراً إلى الدور الإقليمي الكبير الذي لعبته أنقرة خلال السنوات الماضية على الساحة الدولية، وتولدت عنه متابعة دولية واسعة للانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية من الدول الحليفة وغير الحليفة لتركيا ودول الجوار. وقد تلا الإعلان عن نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي جرت الأسبوع الماضي تحليلات سياسية وسياسوية متعدّدة من خارج تركيا، جمعت عموماً بين مواقف مؤيدة أو معارضة لحزبٍ معين أو لشخصية سياسية معينة، وذلك بما يتوافق مع مصالح بعضهم وطبيعة العلاقات في ما بين الفاعلين السياسيين في تركيا وبقية الدول، بما في ذلك الدول العربية.
وبعيداً عن كل الاعتبارات الأيديولوجية والسياسوية في تحليل نتائج الانتخابات التركية، تتيح نتائج هذه الانتخابات لنا بما يكفي من مؤشّرات موضوعية الوقوف عند إنجازات الممارسة الديمقراطية في تركيا منذ تسعينيات القرن الماضي، ورصد تطبيقاتها على دول الجوار، وهذا يدعو إلى التساؤل عن سبب المشاركة القياسية في الانتخابات التركية، في حين تعرف الانتخابات في دول عربية عديدة عزوفاً لا نظير له. ولماذا تمرّ الانتخابات في تركيا من دون عنف، بينما الانتخابات في البلدان العربية تصاحبها مظاهر عنف؟ ولماذا تشهد الانتخابات التركية صراعاً حقيقياً وسلمياً بين أحزاب لها رؤى متباينة، في حين تبقى الانتخابات في عدة بلدان عربية مفتوحة على كل الاحتمالات والمفاجآت، كفوز الأحرار أو فوز من لا حزب لهم أو فوز أحزاب حديثة الصنع؟
سجلت الانتخابات في تركيا نسبة مشاركة قياسية بلغت 88%، من خلال تصويت 54.724.880 ناخباً تركياً في الرئاسيات والتشريعيات
سجلت الانتخابات في تركيا نسبة مشاركة قياسية بلغت 88%، من خلال تصويت 54.724.880 ناخباً تركياً في الرئاسيات والتشريعيات، لينفرد الأتراك بإقبالهم الواسع على الانتخابات، في الوقت الذي تعرف فيه الانتخابات في الدول المجاورة لتركيا والدول العربية مشاركة ضعيفة، إن لم نقل عزوفاً: فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية لعام 2021 في إيران 49%. وفي بلغاريا بلغت 34% نسبة المشاركة في رئاسيات 2021، في حين بلغت 59% نسبة المشاركة في التشريعيات اليونانية لعام 2019. أما في البلدان العربية، فقد بلغت 41,2% نسبة المشاركة في الرئاسيات المصرية لعام 2018، وبلغت 40% في الرئاسيات الجزائرية لعام 2019، وبلغت 57% في الرئاسيات التونسية لعام 2019. أما في التشريعيات المغربية لعام 2021 فقد بلغت نسبة المشاركة 50% في حين بلغت 30% نسبة المشاركة في التشريعيات الأردنية لعام 2020... لتمثل بذلك نسبة مشاركة الأتراك في الانتخابات استثناءً في الجوار التركي القريب والبعيد، فهل هذا يعني أنّ الأتراك معنيون أكثر من الآخرين بالمشاركة في الانتخابات؟
تعبّر المشاركة المرتفعة في الانتخابات التركية عن انتصار للديمقراطية، كما جاء ذلك في تصريح رئيسي المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين والمجلس الأوروبي شارل ميشيل، وترتبط المشاركة المرتفعة في الانتخابات بعوامل موضوعية وذاتية متعدّدة، ولعلّ من بين أهمها إيمان المواطن بأهمية صوته ودوره في تحديد مسار نتائج الانتخابات، ليترتب عن هذا دفع الأتراك إلى التوجّه إلى مكاتب التصويت والانتظار ساعات من أجل أداء واجبهم الانتخابي. وهذا ما يبرّر بالدرجة الأولى إقبال الأتراك على المشاركة في الانتخابات. أما في البلدان العربية فقد ترتب عن تعطيل دور أصوات الناخبين في تحديد ممثلي الشعب عن فقدان الناخبين دورهم الانتخابي، لذا يمتنع الملايين من العرب عن المشاركة في مختلف الانتخابات، على الرغم من شغفهم السياسي وحبهم أوطانهم.
لا يمكن التقليل من دور الانتماءات الاجتماعية والأيديولوجية في تفسير المشاركة الاستثنائية للأتراك في آخر انتخابات
ولعلّ ما يبرّر إقبال الأتراك على الانتخابات تكوّن كتل انتخابية صلبة، كما هي الحال في بقية الديمقراطيات. لا تفوّت هذه الكتل الانتخابية التي تتكون من ملايين الناخبين فرصة أية انتخابات للتعبير عن خياراتها الحزبية، الوطنية والعقائدية، هذه الكتل التي برز وجودها في المجتمع التركي منذ التحوّل الديمقراطي، وترسخت لديها وظيفة المشاركة في الانتخابات. ولعلّ حصول الرئيس رجب طيب أردوغان على 27 مليون صوت وحصول كمال كلجدار أوغلو على 25 مليون صوت خير دليل على وجود كتلتين انتخابيتين أساسيتين في المجتمع التركي. هذا الوجود الذي يشهد حقيقة على وجود رأي عام سياسي. أما في البلدان العربية فمن الصعب الحديث عن وجود كتل انتخابية، نظراً إلى شرذمة الساحة السياسية والفكرية، وليقتصر إجماع الشارع العربي على الجوانب الهامشية للحياة العامة بعيداً عن السياسة.
وترتبط المشاركة الواسعة في الانتخابات كذلك بتجسيد الوظائف الاجتماعية للتصويت والمتمثلة في التعبير عن الخيارات السياسية للناخبين، من خلال تأييد مرشّح ورفض مرشّح آخر. ولا يمكن التقليل من دور الانتماءات الاجتماعية والأيديولوجية في تفسير المشاركة الاستثنائية للأتراك في آخر انتخابات.
وكما لا يمكن التقليل من شعبية المترشّحين في تجنيد أنصارهم وجلب أنصار جدد، وهو تجنيد يلغي مكانة المتردّدين وحتى الصامتين، لا يمكن التقليل من شعبية المترشّحين أردوغان وكلجدار أوغلو في إعطاء حيوية للانتخابات في تركيا، ورمزية كلّ منهما في مخيلة الناخبين الأتراك، وهو ما يبرّر كذلك استقطاب المترشّحين لملايين من الناخبين، عكس البلدان العربية التي يمكن الفوز في الانتخابات بالحد المتوسّط أو الأدنى من الناخبين، نظراً إلى ارتفاع نسبة المقاطعة. ولم تقتصر المشاركة الشعبية في الانتخابات إلّا على التصويت فحسب، بل توسّعت لتشمل كذلك مشاركة متطوّعين من المجتمع المدني في عملية الفرز، ولتشمل المشاركة الشعبية مختلف مراحل العملية الانتخابية.
يمكن اعتبار ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات في تركيا انتصاراً حقيقياً للمسار الديمقراطي الذي انطلق مع بداية التسعينيات
لم تعرف الانتخابات التركية، رغم الإقبال الشعبي الواسع، أيّاً من مظاهر العنف السياسي الذي يسبق غالباً أو يواكب الانتخابات من تفجيرات و قتل وإطلاق نار... ورغم أهميتها، لم تخلُ الحملة الانتخابية من مناوشات بين أنصار المرشّحين، لكن من دون أن يرتقي ذلك إلى أي شكل من العنف السياسي، كالذي تشهده عديد من دول الجوار العربي، حيث يسجل تصاعد مشاهد عنف عديدة عشية الانتخابات وفي أثنائها.
فرغم التباين في خطاب المرشّحين، وفي مواقفهما السياسية والاجتماعية، بل حتى العقائدية، خصوصاً بين المترشّحين أردوغان وكلجدار أوغلو، فلم يسجل أي تحريض مباشر، بل تبادل المتنافسان الرئيسان الانتقادات والتهم عن بعد، كما هو معمول به في الحملات الانتخابية في مختلف الديمقراطيات. وعكس بلدان عربية عديدة يجري فيها فرز الأصوات في ظروف سوريالية، مرّت عملية الفرز في تركيا في هدوء، بعيداً عن مختلف التدخلات المباشرة للإدارة او مؤسّسات الدولة المعلنة وغير المعلنة، حيث لم يسجل أي طعن في القوائم الانتخابية، أو تزوير لصناديق الاقتراع أو لوائح المسجّلين.
إنجازات الممارسة الديمقراطية في تركيا متعدّدة، ولعلّ من أهمها تقديس دور المواطن في صنع مستقبل بلده من خلال الاحتكام لأصوات الناخبين في تحديد من يحكم البلاد. لهذا، يمكن اعتبار ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات في تركيا انتصاراً حقيقياً للديمقراطية، بل انتصار للمسار الديمقراطي الذي انطلق مع بداية تسعينيات القرن الماضي، الإنجاز الذي ساهم في دعمه كل من حكموا تركيا، بمن فيهم المترشّح الرئيس أردوغان الذي يحكم تركيا منذ عام 2014، فهل للعرب الذين تجمعهم الجغرافيا والتاريخ مع تركيا، والذين يستوردون مختلف السلع التركية، بما فيها المسلسلات التلفزيونية، ويعالجون ويستثمرون ويدرسون ويتسوقون ويشترون العقارات في تركيا أن يتأثروا بممارستها الناجحة في مجال الممارسة الديمقراطية، أم أن مجال التبادلات بين تركيا والعالم العربي ينحصر على البضائع والتبادل التجاري؟ مهما كانت تركيبة التبادلات بين تركيا والبلدان العربية، فإنّ تجربة المسار الديمقراطي في تركيا تستدعي من دول الجوار العربي النظر إليها بموضوعية، لأنّها كانت السبيل الوحيد لإخراج تركيا من ماضيها المضطرب في أربعة عقود، والارتقاء بها دولة فاعلة إقليمياً ودولياً.