العرب يدمّرون أنفسهم بوصفة علاجية فاسدة

12 ديسمبر 2024
+ الخط -

يمرّ العالم الواسع من حولنا بمخاض تحوّل عسير ومعقّد تختلط فيه المعطيات المحلية بالإقليمية والدولية، ولعل من أهم ملامحه الانتقال التدريجي والثابت من حالة القطبية الأحادية التي فرضت نفسها بعد نهاية الحرب الباردة إلى تعدّدية قطبية باتت تفرض نفسها يوما بعد آخر. وما بين نظامٍ قديمٍ بصدد التراجع والتفكك وآخر بصدد التشكّل، يتسع قوس الأزمات والحروب الأهلية والمواجهات السياسية والعسكرية الساخنة والباردة، وصعود الانقلابات والانقلابات المضادّة في أكثر من موقع في العالم، ويبدو أن منطقتنا المسمّاة الشرق الأوسط، والرقعة العربية منها على وجه الخصوص، ليست في منأىً عن هذه المشهد العام، بل لعلّها، بما يعتمل فيها من أزمات سياسية وحروب أهلية واجتياحات عسكرية، بمثابة مرآة عاكسة ومكثفة لما يجري في الساحة الدولية الأوسع من صراعات واصطفافات، إذ هي باتت عبارة عن خليط متفجر من الأزمات والحروب والتدخلات الخارجية. في فلسطين وغزّة ولبنان يستمر العدوان الصهيوني لما يزيد عن 14 شهراً، بعدما أخذ ذلك طابع حرب إبادة جماعية مفتوحة لم تستبق البشر والحجر والشجر.

تستعيد سورية موجة ثانية من ثورتها بعدما جرى الإجهاز على موجتها الأولى، ولا يُعلم، على سبيل اليقين، إن كانت ستجتاز المرحلة الصاخبة بسلامة في ظل ثقل الأزمات ومواريث الاستبداد وتهديد كيان الاحتلال حدودها وكثرة اللاعبين داخلها. يعيش اليمن، في الأمر الواقع، تقسيما بين حكومة في صنعاء وأخرى في عدن بالجنوب. تتوزّع ليبيا الأرض والنفوذ بين حكومة في طرابلس الغرب وأخرى في بنغازي الشرق. السودان تنهشه حرب أهلية وتدخلات عسكرية وسياسية كثيرة فرضت واقع تقسيم أضاف تقسيمات إلى تقسيمه السابق، وما بقي من البلدان العربية الأخرى ينهشه خليط مركّب من الديكتاتوريات والأزمات السياسية والاقتصادية، ومن لا يعاني من شبح حربٍ أهليةٍ ظاهرةٍ تعتمل في أحشائه حرباً أهلية مستترة، ومن لا يعايش احتلالاً مباشراً يخضع لتدخّلات خارجية موسّعة ما بين إقليمية ودولية متشابكة.

الأسئلة الأهم هنا: ما الذي أوصلنا الى هذا الدوامة؟ ولماذا كل هذا الانحدار المريع في الوضع العربي؟ وهل من سبيل للخروج من هذه الدوامة المدمّرة التي في طريقها أن تبتلع الجميع؟. ... لا تُطرح هنا هذه الأسئلة لمجرّد الرغبة في التنقيب والتنقير في الماضي القريب أو البعيد، وإنما للاهتداء إلى تشخيصٍ سليم علّه يساعد على تلمّس سبل العلاج السليم في المستقبلين، القريب والبعيد.

الأوضاع العربية التي ثارت عليها الشعوب لم تكن تحتمل مقومات الاستمرار أصلاً، لأنها كانت طاردة لأبنائها وبائسةً على جميع وجوهها

كلنا يعرف أن السردية الرسمية التي كان النظام الرسمي العربي وما زال يردّدها عبر أذرعه السياسية والأيديولوجية والإعلامية ترجع كل ما نعيشه مشرقاً ومغرباً من تمزقات ومحن، إلى الثورات العربية التي كانت، بحسب زعمها، سبباً في هزّ عوامل الاستقرار وجلب التدخلات الخارجية بكل أنواعها، وهي رواية تبدو متناسقة مع السلوك السياسي الذي نهجه وما زال ينهجه النظام الرسمي العربي على امتداد العشرية الأخيرة. فبموجب هذه الرؤية كانت الأمور تسير على ما يُرام، إن لم تكن على أحسن أحوالها، إلى أن ارتفعت صيحة محمّد البوعزيزي من تونس، ومنها إلى مصر وليبيا وسورية والبحرين وغيرها، فكدّرت أحوال العرب ونغّصت معاشهم. وهي قراءة تتجاهل أن الأوضاع العربية التي ثارت عليها الشعوب لم تكن تحتمل مقومات الاستمرار أصلاً، لأنها كانت طاردة لأبنائها وبائسةً على جميع وجوهها، وأن ما نعيشه اليوم من متاهات وما نكابده من مشقّات لا يعود إلى الثورات في حد ذاتها، بقدر ما يعود إلى تصميم النظام الرسمي العربي على الإجهاز عليها وتخريبها وإفسادها، فحوّلها تبعاً لذلك من ثوراتٍ تنشد الحرية والكرامة والتحرّر من الهيمنة الأجنبية والاستبداد الداخلي إلى خليط متفجر من الحروب الأهلية والصراعات السياسية والإثنية والطائفية مخلوطة بإعادة تأهيل ديكتاتوريات جديدة/ قديمة أكثر شراسة وجلافة من سابقاتها، وجرت إعادة "تخليقها" على عجل لإخضاع الشعوب والتنكيل بها ومعاقبتها على التجرؤ على حكامها.

بلغة أخرى، ما نراه اليوم من حطام الخراب في أكثر من قُطر عربي، يعود في بعد من أبعاده الأساسية إلى رفض الثورات ونقض مطالبها والحيلولة دون تحوّلها إلى مشاريع إصلاح وإنقاذ للوضع العربي المتهالك من أصله، وهو السلوك نفسه الذي كان وما زال يوجّه النظام الرسمي العربي المدفوع بإثارة العداوات الداخلية، وتفجير كل خطوط الصراع الديني والطائفي والإثني والقبلي، من أجل مقاومة التغيير والإصلاح إلى الرمق الأخير مهما كان شكلهما وحجمهما.

العنصر الأخطر من مواجهة الثورات العربية نفسها هو أن الوصفة الفاسدة التي تبنّاها لمقاومتها تحولت، بعامل الوقت، إلى ما يشبه عقيدة سياسية وأمنية ثابتة توجّه الدول العربية منفردة ومجتمعة، وتقوم على ضلعين رئيسيين ومتكاملين: أولاً، مواجهة أي احتمال قائم أو ممكن للتغيير والإصلاح بقدر كبير من العنف والبطش، ومن ثم التخلص من إرث الثورات العربية، وكل ما تولد عنها من نتائج لاحقة. ويقتضي هذا الإجهاز على كل صوتٍ جاهر بالإصلاح، ولو كان من داخل المنتظم السياسي القائم، حتى يتم ضرب الخطر في المهد وتجفيف منابعه منذ البداية، وقبل أن يستفحل ضرره ويزداد شرّه، وهكذا تشكل تضامنٌ وثيقٌ بين ما يمكن تسميته نادي الاستبداديات العربية، ليس من أجل مواجهة العدوان الخارجي والدفاع عن السيادة العربية المنتهكة في أكثر من موقع، بل من أجل تحصين الديكتاتوريات بأحزمة من القمع والخوف. وقد استخدم هنا المال والإعلام ووظفت الأجهزة وكل موارد الدولة لخدمة هذا الهدف الاستراتيجي الكبير، وتحوّل الأمن القومي للدولة مطابقاً لأمن الحاكم وعائلته وبطانته المضيقة. هنا تتهارش الدول العربية وتتصارع على كل شيء، ولكنها تتفق على شيءٍ واحدٍ ووحيد، هو التضامن على القمع والإجهاز على الثورات العربية وما بقي من ظلالها.

ما نراه اليوم من حطام الخراب في أكثر من قُطر عربي، يعود في بعد من أبعاده الأساسية إلى رفض الثورات ونقض مطالبها

ثانياً: دفع مسار التطبيع إلى حدوده القصوى، وكسر كل الحواجز النفسية والسياسية، وتقويض "التابوهات" السابقة التي حالت دون المجاهرة بالمعصية، وقد وصل الأمر إلى حد العمل على تغيير المناهج التعليمية والتوجّهات الثقافية ومناصرة الاحتلال من دون وجل، مع الانخراط في مشروع شرق أوسطي يحول تل أبيب إلى العاصمة السياسية والاقتصادية والأمنية، ويجعل من الدول العربية مجرّد كيانات وظيفية ملحقة بها.

الهدف الأكبر من ذلك فرض الجمود السياسي وقطع الطريق أمام أي احتمال للتغيير، مع توفير حصانة دولية وإقليمية للنظام الاستبدادي العربي، على اعتبار أن تل أبيب هي أقرب طريق إلى قلب واشنطن على نحو ما استقر في ذهن أنور السادات منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد بدأ هذا التوجّه محتشماً في البداية من بعض دول الخليج، ثم تحوّل إلى ما يشبه عقيدة سياسية وأمنية عربية عامة، مع استثناءات قليلة، ملخّصها أن الخطر الأكبر الذي يواجه العرب، في حاضرهم ومستقبلهم، يتمركز في المعارضات الداخلية المطالبة بالتغيير، وهنا يستخدم اسم الإخوان المسلمين مثلما كان يستعمل خطر الشيوعية سابقاً في مواجهة مطالب التغيير في أجواء الحرب الباردة. هذا ما يفسّر تردّد النظام الرسمي العربي في مواجهة العدوان على غزّة ولبنان بالحد الأدنى من الجدّية المطلوبة.

وليس خافياً أن هذه التكتيكات السياسية التي ينتهجها النظام الرسمي العربي إنما تحرّكها غريزة الانتقام والرغبة في التنكيل بالخصوم والذهاب بالصراعات الداخلية الى حدودها القصوى، وهي الحالة التي دحرجت العرب، منفردين ومجتمعين، إلى ما يشبه حفل انتحار جماعي، فحينما تعتبر أن عدوك الرقم واحد هو معارضوك من الإسلاميين أو العلمانيين، وتضيف إلى ذلك أن دولة الاحتلال حليف تكتيكي أو إستراتيجي، فإنك، في هذه الحالة، أشبه ما يكون بمن يصوّب الرصاص إلى رأسه قبل أن يوجّهه إلى خصومه.

 لا يُعلم، على سبيل اليقين، إن كانت سورية ستجتاز المرحلة الصاخبة بسلامة في ظل ثقل الأزمات ومواريث الاستبداد وتهديد كيان الاحتلال حدودها

ليس سرّاً أن هذه الانحرافات السياسية والفكرية المناقضة لقوانين التاريخ والجغرافيا قد جعلت المنطقة العربية كوماً كبيراً من الأزمات المتناسلة، ونهبا لكل التدخلات الخارجية، بكل أشكالها وألوانها، ومن المحيط القريب والبعيد، فقد برع العرب في صنع الأزمات بأيديهم وجلْب كل أنواع التدخل إلى أراضيهم من خلال إيجاد شروط مناسبة ومناخات جاذبة لها، من سورية والعراق واليمن إلى مصر وليبيا وتونس وغيرها.

أوضاع الشرذمة السياسية العربية، ثم وجود كيان إحلالي احتلالي في قلبهم، صنعا حالة مزمنة من الهشاشة السياسية العربية، ولكن اتجاه العرب، بمحض إرادتهم، إلى تبنّي خيارات خاطئة، زادهم هشاشة على هشاشتهم السابقة، فعوض أن يستعيضوا عن شرذمتهم السياسية بضم جهودهم إلى بعضها ومواجهة المخاطر العامة المُحدقة بهم برؤية مشتركة وإرادة موحّدة، فإنهم يتصارعون على كل شيء، ولا يوحّدهم إلا القمع والإفساد. وهكذا باتت استراتيجيات الهيمنة الدولية المتراجعة في مواقع كثيرة من العالم تجد فرصها لإعادة التمدّد أكثر في الرقعة العربية، فالأميركان مثلاً لا يستطيعون الذهاب بعيداً في معاركهم مع الروس أو الصينيين أو حتى الإيرانيين، لأنهم سيواجهون وقتها بقدر غير قليل من الحزميْن، العسكري والسياسي، وربما استخدام السلاح الاستراتيجي ضدهم، ولكنهم يستطيعون المغامرة مع العرب من دون تبعاتٍ أو مخاوف تُذكر، فيترجمون سلطتهم في انتزاع مزيد من القواعد ومناطق النفوذ وافتكاك الأموال العربية.

كان جواب النظام الرسمي العربي على ما يعتمل في داخله من عوامل التفجّر الذاتي وما يحيط به من متغيّرات نوعية التشبث باستراتيحية الجمود والامتناع عن التغيير، وهو التكتيك نفسه الذي اتبعته الملكيات الإطلاقية الأوروبية ردّا على الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر، وكان ذلك بزعامة إمبراطورية النمسا المجر (الهابزبيرغ)، إلى أن انفجرت الثورات في وجهها في أكثر من موقع في عموم القارّة في إطار ما عرف بربيع أوروبا سنة 1848، فما كان محليا في بلد أوروبي تحوّل إلى حدث قارّي، شمل كل البلدان الأوروبية تقريبا. وللأسف، لدينا دولٌ عربية محورية تريد أن تلعب الدور نفسه الذي لعبته إمبراطورية النمسا/ المجر في مواجهة الثورة الفرنسية، فانتهى مصيرها إلى التفكك والضياع إلى غير رجعة.