العزلة "المشروطة" .. سفينة النجاة الذاتية
يُقال إن العزلة تحدُث بسبب انعدام وسائل تحقيق العلاقات الإنسانية أو تراجعها؛ والمؤكّد أنها تحدُث كثيرا في واقعنا المعاصر مع تزايد شبكة العلاقات وتنامي الوحدة، وتناقص مخيف "للرغبة" بالإنصات للآخرين واللجوء للردود الجاهزة المعلبة الخالية من الدفء الإنساني والمصبوغة بألوان زاعقة من الزيف والنصائح منتهية الصلاحية، وأطنان من الكلام الذي يلقيه بعضهم بلا حماسة؛ وكأنه يلقي بكائناتٍ بلا أي حياة على إنسانٍ ما زال يتنفس.
لذا "يختار" كثيرون من الجنسين، ومن كل الأعمار، العزلة بكامل إرادتهم، وأحيانا برضا "صادق" وبشعور بالنجاة أيضا؛ وإن واصلوا الوجود "الظاهري" مع الناس. وهم الأكثر احتراما لعقولهم ولقلوبهم ولأعمارهم من الذين يلقون أنفسهم في علاقاتٍ تنال منهم، "وتأكلهم" ببطء، وهم يتبادلون مع نظرائهم الكلمات الباردة والمشاعر الباهتة، ويسرقون ما تبقى من "وهجهم" الخاص، ويُجهزون على تفرّدهم الإنساني، ليتحولوا إلى أشباه بشر يتحرّكون ويتكلمون ويعملون ويتناسلون وينامون ويستقيظون، ليكرّروا ما يفعلونه بلا شغف، ويطفئون أنوارهم بأيديهم يوما بعد يوم، حتى يعتادوا الظلام "ويفزعوا" من أي نور، ويقاومون بشدّة من يحاول الأخذ بأيديهم بودّ واحترام لإنارة طريقهم.
"يختار" كثيرون من الجنسين، ومن كل الأعمار، العزلة بكامل إرادتهم، وأحيانا برضا "صادق" وبشعور بالنجاة أيضا
يبدأ بعضهم حياته بالرغبة العارمة للحفاظ على تفرّده، ثم يخذل نفسه ويسير وراء القطيع طلبا للأمان المزعوم ويختار المثل الأميركي البغيض؛ "إن لم تستطع هزيمتهم فانضم إليهم".
لا نريد معارك مع الآخرين؛ فهذا تبديدٌ للأعمار وإهدارٌ للطاقات؛ المطلوب ألا نكون رقمًا أو شيئًا بالحياة؛ أن نفلتر علاقاتنا أولا بأول، فنتخلص مما يخصم منا أو نضع متاريس نفسية تمنع اختراقها أعماقنا حتى لا تتسلل السموم المختلفة داخلنا. .. نتوقف عند القول البديع لنيتشه: "أكره من يسرق مني وحدتي من دون أن يقدم لي رفقة حقيقية"؛ فالرفقة الحقيقية تعني احترام المشاعر وتبادل الإنصات بود وبرغبة صادقة في التفهم، وليس ما نراه في معظم التعاملات، فيرون العلاقات كالمناديل الورقية تحقق متعة "وقتية"، ثم يتم التخلص منها، مع كم رهيب من المجاملات الزائفة "المسمومة"، والتي ترفع سقف التوقعات ممن يشاركوننا بالحياة، ولا نجدها ليس لأنهم سيئون؛ وبعضهم كذلك بالطبع؛ ولكن لأنها غير واقعيةٍ ولا أحد يفعلها.
تفسد خطيئة التغرير بالناس ورفع توقعاتهم في الحياة، وقد تجعلهم يهربون إلى العزلة المنهكة والمستنزفة، أي "الإجبارية"، لليأس من الفوز بما يرغبون؛ وتختلف عن العزلة الاختيارية التي يرفض فيها صاحبها (من الجنسين) العيش باغترابٍ لا مبرّر له، والاستماع لكلمات مكرّرة، ويفضل مصادقة نفسه وأقل القليل، ويعتبرهم إضافةً له، وليسوا الأساس، فيمكنه قضاء أوقات جيدة ولطيفة ونافعة مع نفسه، ولا يحيا "عالة" على الآخرين ينتظر الفتات منهم؛ كما يفعل كثيرون، ويقدّمون التنازلات بأنواعها للحصول على الفتات الإنساني والعاطفي والاجتماعي؛ ويبدّدون ثرواتهم الحقيقية، ونقصد بها أعمارهم في علاقاتٍ "تُراكم" البرودة العاطفية لديهم، وتحرمهم من الاستمتاع بدفء البهجة الصافية التي قد يجدونها في كتابٍ جيد أو هوايةٍ قديمة تناسوها وراء "خضوعهم" بكامل إرادتهم أو في غفلة منهم لزحام تفاصيل الحياة، وقد يجدونها في مساعدة إنسانٍ لا يعرفونه أو تأمل للطبيعة أو مشاهدة طفلٍ يضحك أو حيوانٍ يلعب.
نحن من نصنع جحيم علاقاتنا عندما نهرول إليها من أبواب الاحتياج، وأحيانا للهرب من مواجهة أنفسنا بمشكلاتنا
يقول رينيه ديكارت: "أرغب بالعيش بسلام ومواصلة الحياة التي بدأتها تحت شعار كي تعيش بشكل جيد يجب أن تعيش بشكل غير مرئي". نختلف معه ونرفض مبدأ الاختباء أو الالتفات إلى البشر؛ ليس من قبيل التعالي بالطبع، ولكن للتفرّغ لتحسين الحياة؛ فالعمر مهما طال قصير، ودوما لدينا الاختيار بين فعل ما يفيدنا ويسعدنا ويضيف إلينا أو لغيرنا أو قضاء أوقات مع من لا يصل إليهم صوتنا الخاص. نرفض قول جبران خليل جبران: "صوت الحياة فيِّ لا يبلغ أذن الحياة فيك ولكن دعنا نتحدث حتى لا نعاني الوحدة"؛ فمن قال إن الوحدة معاناة؟ كيف يمكن أن يتمتع من يفكر كذلك بعلاقات ناجحة "تليق" به وهو يهرب من الوحدة وكأنها عذاب أو سجن؟؛ وكأن "البراح" فقط مع الآخرين، والمؤكّد أن البراح إن كان يسكن داخلنا أولا فلن نجده بعلاقاتنا، ومن لا يستطيع "الونس" بنفسه لن يُحسن تقدير نفسه بعلاقاته والعكس صحيح.
لا نزعم إن الآخرين هم الجحيم كما قال سارتر، فهذه مبالغة؛ فنحن من نصنع جحيم علاقاتنا عندما نهرول إليها من أبواب الاحتياج، وأحيانا للهرب من مواجهة أنفسنا بمشكلاتنا أو للبحث عمّن يقول لنا إننا رائعون ولا نحتاج لنكون أفضل، ولا أحد لا يمكنه أو لا يحتاج ليكون أفضل؛ فمن يتوقف عن هذا السعي سيتراجع حتما، فلا مجال للأكذوبة "البشعة" محلك سر؛ فالحياة لن تتركنا في محلنا أبدا؛ فإن لم نتحرّك إلى الأمام فسنتأخر، وقد "تدهسنا" ونحن نتغنّى بانتصاراتنا القديمة.
نرفض أيضا قول الكاتب البريطاني آلان دي بوتون: "إننا لا نوجد حقا إلا إذا كان هناك من يبصر وجودنا، ولا نتحدّث على النحو الملائم إلا إذا وجدنا من يستوعب جوهر كلامنا، ولا نشعر بوجودنا على قيد الحياة، بالكامل على قيد الحياة، إلا بوجود من يحبوننا". نثق أن كل إنسان في الكون يستطيع أن يتعامل مع نفسه كقوة عظمى، وليس كدويلة تتلقى المعونات من الآخرين ولا تنتج ما يكفي استهلاكها المحلي من أساسيات الحياة؛ فتظل في حالة احتياج "مزمن" وتعطّل بيديها قدراتها للنمو وللتطور وللتقدّم. ومهما حصلت على معونات، فستظل دوما في نفسية "العاجز" عن السير وحده، وسيظل من يقدّمون لها المعونات في وضع "المسيطر"، الذي يتحكّم في قراراتها وسيادتها.
لا يهمّ عدد من نعرف؛ فالأهم أننا نتبادل معهم الشغف بالحياة والرغبة بالفهم والاحترام والود، ولن نقطع صلتنا بغيرهم
لا نرضى لأي إنسان في الكون بهذا المصير؛ فليحبّ كل منا نفسه وكل ثانية في عمره، ويملأها بكل ما يستطيع من الفائدة والنمو والبهجة أيضا؛ فهي ضرورية جدا "للصمود"، وسط التزايد البغيض في الضغوط والسخافات والعبثية أحيانا التي تحاصرنا جميعا في التعاملات اليومية، وعبر ما يحدُث في العالم، وما تلقيه بوجوهنا الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعل "حتمية" العزلة الاختيارية ولو لبعض الوقت؛ يوميا للتخلص من "غبار" الآخرين، حتى لا تتسلل إلينا وتتسبب بإصابتنا بضيق التنفس أو بحساسية مزمنة لا يجدي معها أي علاج، وترهقنا بإعياء كان يمكننا تجنبه.
نتفق مع توماس كارليل القائل: "يظهر التاريخ أن أغلب من قاموا بعمل عظيم قضوا حياتهم في عزلة". ونضيف لا يُشترط الرغبة بصنع عمل عظيم لنقرّر العزلة، ونصنع سفينة النجاة الذاتية؛ فالفوز بالصحة النفسية وقدر جيد من الصفاء الذهني وتجديد الزهوة الذاتية ومراجعة أنفسنا برفق وبحب وباحترام وبعدم تبرير الأخطاء والمسارعة بتصويبها بلا تعليق المشانق، وإعادة التفكير بالأولويات، "تستحق" اختيار العزلة.
نرفض العزلة الممتزجة بالمرارة والغضب من الناس ومن الدنيا؛ فهي تورّث السخط وكراهية الحياة، ونفضل العزلة "الذكية" لإعطاء النفس كل حقوقها للتمكّن من أداء كل أدوارها في الحياة بنجاح وبرضا ولمنع التحول إلى شيء يتعامل مع أشياء، ويتبادلون استخدام بعضهم بعضا.
في العزلة تتجدّد إنسانيتنا ويتنامى الاعتزار بها؛ لنرفض تلقائيا كل ما يجعلنا أشياء، ولا يهمّ عدد من نعرف؛ فالأهم أننا نتبادل معهم الشغف بالحياة والرغبة بالفهم والاحترام والود، ولن نقطع صلتنا بغيرهم؛ لكننا لن نأخذهم أبدا معنا في سفينتنا الذاتية.