العسكرة والتسميم السياسي لا يحميان الدولة والمجتمع
ألزمت السلطة في مصر مرشّحين للتعيين في الجهاز الإداري للدولة باجتياز دورة تدريبية في الأكاديمية العسكرية المصرية، بمن في ذلك الملحقون الدبلوماسيون في وزارة الخارجية، بجانب مرشّحين لوظائف في وزارات المالية والتعليم والنقل وغيرها. تتضمّن الدورة، حسب ما فُهم من الأخبار المتوفرة، تدريبا بدنيا وآخر يتصل بقضايا الأمن القومي وحماية الدولة والوطنية المصرية، فضلا عن الانضباط وإدارة الوقت. وخلال الأيام الماضية، حضر الرئيس عبد الفتاح السيسي جزءا من الاختبارات النهائية في الدورة لمتقدّمات أمام لجنة معظمها من الجنرالات.
يُقر هذا الأسلوب بفشل (أو تقصير) الجامعات المدنية التي مهمّتها الأساسية إعداد الكفاءات البشرية التي يحتاجها المجتمع بقطاعاته المختلفة، كما أنه يخترق الدستور والقوانين المنظّمة لشغل الوظائف العامة، والتي تنص على معايير محدّدة في التعيين، مثل الكفاءة والجدارة وتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين. وبالتالي، لا تتضمّن هذه القوانين شروطا مثل اجتياز امتحان شفوي أو مقابلة أمام لجنة من العسكريين، ولا اجتياز دورة تدريبية تنظمها مؤسسة أمنية، وتشمل تدريبات بدنية. وبالطبع، لا تتضمن أن الترشيح ذاته لهذه الدورات يتم باختيار السلطة.
هذا الأسلوب جزء من ظاهرة أكبر هي عسكرة المجتمع. وبموجبه، يستخدم الحاكم الأوحد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية واعتماد سياسة التلقين المذهبي للتأثير في قيم الناس وسلوكياتهم لتحقيق هدفين معا: ضمان استمرار النظام ذاته عبر إيجاد طبقة من الشعب (نخب وموظفون وعمال) موالية للنظام ومعتمدة عليه. وتوريط المؤسّسات العسكرية والأمنية في الصراع السياسي الذي يقودُه النظام ضد معارضيه أو خصومه، ومن ثم ضمان ولائها وجعْل بقاء النظام مصلحة لهذه المؤسّسات. لا يكتفي هذا النمط من الحكم بالسيطرة على المؤسّسات الأمنية والعسكرية فقط، وإنما أيضا يُقحمُها طرفا في الصراع السياسي.
لكي نفهم النظام في مصر على حقيقته علينا أن نضع كلمة "الحاكم الأوحد" أو "النظام السياسي للحاكم الأوحد" مكان كلمة "الدولة" في خطابه الحالي
والمغالطة الرئيسية هنا هي الخلط المتعمد بين ثلاثة أمور لا يجب الخلط بينها: الحاكم والنظام والدولة. ولهذا، ولكي نفهم النظام على حقيقته علينا أن نضع كلمة "الحاكم الأوحد" أو "النظام السياسي للحاكم الأوحد" مكان كلمة "الدولة" في خطابه الحالي، ونضع كلمة "الولاء للحاكم الأوحد" أو "الولاء للنظام القائم على الحاكم الأوحد" مكان "الوطنية" و"المواطنة"، وأن نضع "أمن الحاكم ونظامه واستمراره إلى الأبد" مكان كلمات مثل "أمن الوطن" و"استقرار الدولة" و"رفاهية المجتمع".
وخطورة هذا النمط من الحكم أنه (وعلى عكس ما يُروّجه) يضرب المجتمع والدولة في مقتل، لأنه يضرب الركن الأساسي في المجتمع من خلال تحويل الشعب إلى مجموعاتٍ متصارعةٍ لا تحترم القانون، وترى أن القرب من النظام هو الطريق الوحيد للتوظيف والترقّي والوصول إلى المناصب والشهرة والثراء. هذه عملية يسميها بعضهم "التسميم السياسي"، وهي تنتج عن زرع الاستقطاب والتنافس بين الناس (امتيازات أو كادر خاص لفئة دون أخرى ...)، والتأثير في ثقافة الناس (قيمهم واتجاهاتهم ومن ثم سلوكهم)، من أجل السيطرة عليهم وتحويل فئاتٍ كبيرةٍ منهم إلى عقبة أمام أي تغيير حقيقي. ومن ناحية أخرى، له تداعيات مدمّرة على بقاء الدولة ذاتها، لأنه يقضي على أركان أساسية في الدولة، وفي مقدّمتها حكم القانون ودولة المؤسّسات، بشكل متدرّج وخفي، وفي صدارة هذه المؤسّسات الجيش والقضاء والإعلام والجامعات.
لا ينفرد العرب بهذه الأمور، فهذا نمطٌ متّبع في الدول الشمولية والفردية والقمعية (متّبع اليوم في الصين وكوريا الشمالية، وكان متّبعا في الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا وبعض دول أميركا الوسطى والجنوبية قبل انتقالها إلى الديمقراطية)، حيث تكون هناك علاقة مركّبة بين القوة والثقافة والعنف. والحفاظ على الأوضاع القائمة ومعادلات القوة والهيمنة والسيطرة يتم عن طريق العنف، والتلقين المذهبي واعتماد خطاب رسمي يقوم على قلب الحقائق وترويج عبارات وطنية زائفة أو الخطر الداهم. وهناك بعد خارجي لهذه الظاهرة، لكنه يحتاج إلى مقالة منفردة.
السائد في المجتمعات التي لديها الحد الأدنى من تقدير العقل والمنطق، وتسعى فعلا إلى أمن الأوطان واستقرارها، أن الحكومة بمعناها الأوسع تقوم بوظيفة عامة لخدمة الشعب
في الصين، على سبيل المثال، تُصدر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي واللجنة العسكرية المركزية ومجلس الدولة الصيني توجيهاتها بشكل دوري بشأن "تعزيز التعليم الدفاعي الوطني لجميع الأشخاص وتحسينه" بهدف "زيادة وعي الشعب بالدفاع الوطني"، و"احترام الأفراد العسكريين"، و"تعزيز حسّ المسؤولية تجاه بناء دولة قوية لها جيش قوي"، وغير ذلك. ويتم هناك أيضا دمج "التعليم الدفاعي الوطني" في مناهج المدارس.
وفي جمهورية الدومنيكان، خلال حكم الدكتاتور رافائيل تروخيو (1930 - 1961)، تم تعزيز شكل معين من الثقافة، يقوم على العسكرة والسلطوية، بهدف إيجاد هوية وطنية ترتكز على "النظام والولاء للدولة وعبادة شخص الرئيس"، وذلك باستخدام الدعاية والرقابة من أجل السيطرة على المجتمع وعلى الإنتاج الثقافي في البلاد، وتم أيضا استخدام الجيش في التعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج القانون، ورعاية شبكةٍ من المخبرين والجواسيس لمراقبة الشعب والجيش ذاته، فضلا عن استخدام الجيش للسيطرة على الاقتصاد، من خلال إنشاء شركات تابعة للدولة تستخدم العمالة بالإجبار.
وعلى الرغم من هذا، فلهذا النمط، ومهما طال عمره، نهاية محتومة. فقد ثَبُتَ فشله في نهاية المطاف، وكل ما يقوم به إطالة عمر الاستبداد، وتأخير عملية الإصلاح أو التغيير، ورفع كلفته.
هل من بديل؟ نعم، هناك بديل مجرّب، فالسائد في المجتمعات التي لديها الحد الأدنى من تقدير العقل والمنطق، وتسعى فعلا إلى أمن الأوطان واستقرارها ورفاهية المواطنين، أن الحكومة بمعناها الأوسع (الرئيس والوزارة والبرلمان وكل المسؤولين المنتخبين على المستويين الوطني والمحلي)، تقوم بوظيفة عامة لخدمة الشعب. ومن ثم كل مسؤول داخلها هو موظفٌ عام، خادمٌ للشعب، وليس صاحب السلطة الأبدي، وهو مقيّد بالدستور والقانون، ويُحاسب على وظيفته أمام الشعب (وقت الانتخابات وعبر أدوات الرقابة الداخلية والخارجية، المتعارَف عليها). الحكومة إذاً ليست شخصا يرى نفسه المنقذ، ويدّعي الحكمة شبه المطلقة، ويحتكر الفهم في تشخيص المشكلات وفي إيجاد الحلول لها، ويتجاهل الدستور عمدا ويتلاعب به وبالقوانين متى شاء، بل ويرى أنه لا يُحاسب إلا أمام المولى عز وجل.
للدولة شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية الحكام، تتمتّع بالحقوق وتلتزم بالواجبات، أي لها ذمّة مالية، وحقّ التملك والبيع
أما النظام فهو المؤسّسات السياسية المتمايزة في الهياكل والوظائف، والمتوازنة في الصلاحيات، والمرتبطة بمرجعية فكرية، منبثقة من، ومتّسقة مع، ثقافة المجتمع ومعتقداته الدينية وقيمه وتقاليده وأولوياته التاريخية الكبرى. النظام إذاً ليس الحاكم الفرد الذي يسيطر على بقية مؤسّسات الدولة من قضاء وجيش وأمن وأجهزة رقابية وجامعات ومراكز بحوث، ولا الذي يُقرّب أفراد عائلته ويمارس سياسة ممنهجة في التغيير الدوري لقيادات الجيش والأمن خوفا من منافسته أو الانقلاب عليه، ولا الذي لا يرى حرجا أن إنشاء أذرع إعلامية جديدة للنظام أمر يستغرق وقتا.
أما الدولة فهي الكيان المجرّد الذي يضم كل تلك الكيانات والمؤسّسات، وهي التي أنهت شخصنة السلطة في أشخاص الحكام، وجعلت ممارسة السلطة وظيفة عامة، وأقرّت مبدأ مساواة الحكام والمحكومين أمام القانون، كما صارت السيادة صفة لها (للدولة) بدلا من سيادة الملوك المطلقة. وللدولة شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية الحكام، تتمتّع بالحقوق وتلتزم بالواجبات، أي لها ذمّة مالية، وحقّ التملك والبيع، وحقّ الاستقلال في الخارج، ويمكن مقاضاتها في المحاكم، فضلا عن أنها تقوم على مبدأ الاستمرار، فكل القوانين والالتزامات التعاقدية والمالية التي تصدرها المؤسسات السياسية باقية بعد تغير الحكومات والأنظمة.
ليس هذا البديل خطرا على الدولة كما يُروج، وإنما هو الذي يقيم دولة حقيقية في الأساس. ما يحمي الدولة واستقرارها واستمرارها ليس التلقين المذهبي للشعب، ولا صنع فئات موالية للحاكم، ولا تأبيد السلطة، ولا النظر إلى الحاكم بوصفه منقذا، ولا السيطرة على مؤسّسات الدولة وتسخيرها لخدمة الحاكم والفئات المستفيدة منه، ولا الاهتمام بالقصور والطرق والجسور وبناء أكبر مسجد وأكبر كنيسة، على حساب التعليم والصحّة وتوفير حياة كريمة للفقراء والمعدمين وبناء سياسة خارجية مؤثرة. من يحمي الدولة هو الشعب الحر، والجامعات المستقلة ماليا وإداريا، والمجتمع المدني الحي، والصحافة الحرّة، والحكومة المسؤولة، والنظام السياسي الفعّال، والجيوش المهنية، والأجهزة الأمنية والرقابية المحترفة.