العقوبات الأميركية وضرورة آلية دولية للمساعدات
تعود العقوبات على النظام السوري إلى 1979، حينها صُنِّفت سورية دولةً راعية للإرهاب، بسبب دعمها بعض الفصائل الفلسطينية، والنظام الإيراني، وفُرِضت عقوبات جديدة في عام 2003، ضمن قانون محاسبة سورية وتحرير لبنان، وبسبب دعم النظام الجهاديين في العراق. لم يغيّر النظام من ممارساته ليزيلها عنه، واستمر بالسياسات ذاتها؛ دعم إيران والتدخّل في لبنان والعراق والاستمرار في انتهاج الشمولية ضد الشعب السوري. لحقت العقوبات تلك عقوباتٌ متتالية، وشملت منع الطيران السوري من الهبوط في مطارات الولايات المتحدة، وتقييد حركة الدبلوماسيين السوريين بـ25 كيلومتراً، ومنع تصدير أيّ بضائع أميركية إلى سورية، باستثناء الطعام والأدوية، وكذلك تقييد أية تبرّعات مالية، وتجميد أصول مالية لأفراد ومؤسّسات تابعة للنظام السوري، وكان أبرز هؤلاء رامي مخلوف.
أضيفت بعد 2011 عقوبات، وتشدّدت الإدارة الأميركية ضد الاستثمار في سورية أو استيراد النفط منها، ومنعت الاتّجار به، وبالطبع عوقبت أسماء ومؤسّسات جديدة، تابعة وقريبة من النظام السوري. ومع قانون قيصر 2019، مُنِعَت كلّ عمليات الاستثمار في البناء، وجرى التشديد على السوق السورية مع قانون الكبتاغون في 2022، وسمّيت سورية دولة متاجرة بالمخدرات.
أتى الزلزال ليمنح النظام السوري وهم الخلاص من العقوبات، واشتغلت، بسعادة منقطعة النظير، الماكينة الإعلامية التابعة له، بفكرةٍ واحدة، رفع العقوبات الأميركية، الدولية، التي أنهكت السوريين وأفقرتهم، وأنّ مواجهة آثار الزلزال تنطلق من رفع العقوبات وليس رفع الأنقاض عن الأحياء وتأمين احتياجاتهم، وتوفير السكن البديل والطعام والملبس وحاجات الأطفال والمرضى، وهو ما لم يفعله. أصدرت الخزانة الأميركية توضيحاً بعد الزلزال، يقول برخصةٍ عامةٍ للمساعدات إلى سورية، واستندت إلى قانون محاسبة سورية، وليس إلى قانون قيصر أو الكبتاغون. صدرت الرخصة تلك كتشريعٍ لكلّ المؤسسات والأفراد الراغبين في المساعدة، لكنّها مؤقتة بستة أشهرٍ، وتشمل ليس فقط المساعدات الطبية والغذائية، والتي لم يكن عليها أيّ عقوبات من قبل، منذ 1979، بل السماح بإرسال الحوالات المالية عبر البنوك من سورية وإليها، ومن دون العودة إلى وزارة الخزانة الأميركية. الجديد هذا، يوقف تخوّفات البنوك الدولية في حال إرسال الأموال إلى سورية، كما كان من قبل. الجدير ذكره أنّ مجيء تلك الأموال انعكس فوراً تحسّناً في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار، وهذا مهم لصالح النظام في حال أراد تحسين أوضاع السوريين، أو الأجور أو ضبط الأسعار، وحتى في دعم المتضررين من آثار الزلزال، لكن عبثاً؛ فقد شهدت المساعدات المالية والعينية، في الأيام السابقة، كلّ أنواع التعفيش والسرقة، وتُرِكَ الناس المتضرّرون للبرد القارس، وفقط المساعدات الأهلية قامت بكلّ ما تستطيع، وفي هذا تحرّكت المدن السورية والمهجّرون في أوروبا وسواها للإنقاذ؛ وجاء هذا ردّاً مباشراً على سياسات النظام أو المعارضة التفريقية بين "السوريات".
إذا فشل النظام في رفع العقوبات؛ فالقوانين الصادرة بحقه، وهي كثيرة، وفي مقدّمتها محاسبة سورية، وقيصر، والكبتاغون، وهناك قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وكلّها تدينه، وتُفقده الشرعية جزئياً، واستعادتها كاملة غير ممكنة من دون تغيّرٍ في سياساته وممارساته، وبالتالي، شطب تلك العقوبات، وهذا يعدّ مستحيلاً، وبالتالي، العقوبات مستمرّة، والنظام وحده، كما أشرنا، من يستطيع رفعها عن كاهله.
أتى الزلزال ليمنح النظام السوري وهم الخلاص من العقوبات، واشتغلت، بسعادة منقطعة النظير، الماكينة الإعلامية التابعة له، بفكرة رفع العقوبات الأميركية، الدولية
سيُضاعف عدم قيام النظام بأيّ مبادرةٍ جادّة لمعالجة آثار الزلزال من حالات التذمّر الاجتماعي نحوه، وقد ظهرت أولاها، بإعلانٍ واضح من المواطنين بغياب الثقة بأيٍّ من مؤسساته، إذ حاول، بكل الطرق، الاستيلاء على المساعدات الأهلية، كما فعل مع المساعدات الدولية القادمة عبر مطاراته، وذكرت تقارير أن قنصل الجزائر قد احتجز في مطار حلب، وقد جاء ليرافق توزيع المساعدات، وحينما أُفرج عنه، قيل له إن المساعدات جرى توزيعها، أي نُهبت بكل بساطة. وفوجئ الوفد الأردني المرافق للمساعدات إلى حلب أيضاً بأنّ من يسيطر على حلب هو الحرس الثوري، وهو من سيقوم بالتوزيع، أي بسرقتها، وهكذا.
رغم أهوال آثار الزلزال، ومقتل الآلاف، وتشرّد ملايين السوريين، الذين أصبحوا بحاجةٍ ماسّة لمساعدات عاجلة، لم تستطع قوى الأمر الواقع في "السوريات الأربع" التفاهم، وتوحيد الجهود لمواجهة تلك الكوارث، وبعد مرور قرابة الأسبوع، يتحمّل النظام المسؤولية الأولى، وكذلك بقيّة تلك القوى. لم تصل أيّ مساعدات دولية إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الأيام الأولى لما بعد الزلزال. وبالتالي، ومجدّداً، تقع المسؤولية على النظام أولاً، وعلى تركيا وروسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي في عدم اعتبار المناطق المتضرّرة من الزلزال منطقة واحدة في تركيا وسورية، وإرسال المساعدات إليها بشكل عادل ومتوازن. وصلت في الأيام الأولى قوافل المنقذين إلى تركيا بينما لم يحصل ذلك في سورية.
حالياً، هناك ملايين تقطّعت بهم السبل، وهم بحاجة للمساعدات، لكنّ الممارسات الأولى لنهب المساعدات، أموالاً وبضائع، تقول بضرورة تشكيل آلية دولية، تشرف على إيصال المساعدات وتأمين احتياجات تلك الملايين المتضرّرة بشكل مباشر، وليس فقط للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وتشكّل تبعيّته لكلّ من روسيا وإيران، بسبب آليات الفساد والنهب الناظمة لأعماله، سبباً وجيهاً لضرورة تلك الآلية؛ أيضاً، يجب أن يكون الدعم السوري من المهجّرين والمهاجرين خارج سورية ضمن صناديق ماليّة موحّدة، وتشرف عليها شخصياتٌ معروفة بنزاهتها، ويُفترض أن تخضع للمراقبة من مؤسّساتٍ معنية بذلك، لتُخمَد أيّ شبهات فسادٍ محتملة، وأن تكون وطنيّة النزعة، وليست خاصةً بهذه المدينة أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك وسواه.
حاول النظام، بكل الطرق، الاستيلاء على المساعدات الأهلية، كما فعل مع المساعدات الدولية القادمة عبر مطاراته
تنفّسَ النظام ولا شك، لكن حاجة إيران للدولارات، لا سيما بعد القرار الأميركي تقليص حصة العراق منها، في الأسابيع الأخيرة، ومراقبة حركة الأموال في سورية، ونهبها لصالح إيران، ستمنع استفادة النظام الفعلية منها، وقد يعاد توقيف التحويل المالي من سورية وإليها مجدّداً، لا سيما أنّ إجراءات التحويل صدرت من أجل معالجة آثار الزلزال على الأهالي. وبالتالي، وما لم يسارع النظام إلى فهم هذه الفكرة، فإنّ تلك الرخصة ستُلغى على الأغلب، والأموال التي تدفّقت في الأيام الأولى ستتقلّص تدريجياً.
لم تلغَ أيّ عقوبات على النظام؛ على الشخصيات الأساسية والمؤسسات التابعة له، والمُلحَقة به، وستظلُّ مشروطة بأيّ تحولاتٍ سياسية يقوم بها، كوقف إطلاق النار، أو الإفراج عن المعتقلين السياسيين أو تطبيق القرارات الدولية، وفي مقدمتها 2254، وهو ما حاول النظام الالتفاف عليه مستغلاً الزلزال. هذا يعني أنَّ تلك الرخصة لا تعني في أي حالٍ رفع العقوبات أو الإعفاء منها؛ إن تصريحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين واضحة بهذا الخصوص، وحتى في ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، فهي تشترط لقدومها أن تكون عبر مؤسسات الأمم المتحدة أو منظمات غير حكومية. أوصلت الإمارات والجزائر وعُمان والعراق، بصفة خاصة، مساعداتها عبر النظام، وتجاهلت المناطق الخارجة عن سيطرته، بينما لا تتمتع دول العالم بقلة الضمير هذه، ستعمل على معالجة آثار ما بعد الزلزال في كلّ سورية. والمشكلة هنا أنّها ستصطدم بالنظام وإيران وروسيا، وبالتالي ستضطر إلى البحث عن آلية دولية، وهذا ما سيُجبرها على العودة إلى معبر باب الهوى أو فتح معابر جديدة عبر تركيا، وتقليص المساعدات عبر مطارات النظام.
هل سيتمكن النظام من تغيير سياساته وممارساته والاستفادة من الأجواء الدولية الراغبة في المساعدات والحل السياسي، وقد أصبحت سورية الحدث الأبرز عالمياً بعد تركيا، بالتأكيد لا. إذا ليس من جديد في الوضع السوري إلّا إذا أخذت الدول الكبرى زمام الأمر بين يديها، وهذا دونه حرب أوكرانيا والخلافات بين تركيا وأميركا والأخيرة وروسيا، وقضايا كثيرة غيرها.