العلمانية وصعوبات التقبل العربي
ما زال باحثون ممن ينتمون إلى الفكر السياسي الإسلامي ينظرون إلى العلمانية مرادفا للإلحاد، على الرغم من أن المكتبات العربية أصبحت مليئةً بالكتب عن العلمنة والعلمانية، سواء في سياق تشكلاتها التاريخية في الغرب، أو في تجلياتها الحالية، مع ما فيها من صراعات أيديولوجية تبين أن العلمانية ليست هي الإلحاد. وقد لعب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات والشبكة العربية للأبحاث والنشر، وغيرهما أدوارا بالغة الأهمية في نشر وترجمة كتب لأهم علماء السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا في العالم حول العلمانية، بهدف تقديم فهم أعمق لها.
ليس هدف العلمانية إلغاء الدين، فهذا هدف الإلحاد، وإذا ربط بعضهم بين الإلحاد والعلمانية، فما ذاك إلا لأنهم عمّموا حالة إمبريقية تاريخية على حالة عامة فوق تاريخية. وليس الإلحاد هو الجهل البسيط بالله، كي يحمل المرء لقب الملحد، بل عليه أن يكون عالما بمفهوم الإله وعالما بمفهوم الإنسان، وما نكران وجود الله إلا محاولة لإثبات إنسانية الإنسان باعتبارها مركز الوجود، وهذه حالة جاءت في عصر التنوير الأوروبي، وتوّجت مع الفيلسوف فيورباخ في كتابه "جوهر المسيحية".
باستثناء بعض الفلاسفة والمفكرين، أمثال فولتير وهولباخ وديدرو، وصف فلاسفة كثيرون في القرنين السابع عشر والثامن عشر بالملحدين، من دون أن يكونوا ملحدين بالفعل: هوبس وتفسيره المادي للكتاب المقدس، ديفيد هيوم والتاريخ الطبيعي للدين، بيير بايل والدفاع عن مجتمع أخلاقي منفصل عن الدين، سبينوزا ووحدة الوجود.
نشأت علمانياتٌ تناهض الدين، وتعمل على إقصائه من المجال العام، لكنها تفسح المجال للأديان وللحرية الدينية بسبب عمق الفكرة الليبرلية فيها
كان الإلحاد في تلك المرحلة انعكاسا لصيرورة تاريخية مثقلة بإرث الحروب الدينية وبمنجزات العقل الفكرية والعلمية، في وقت ما زالت فيه الكنيسة، على الرغم من ضعفها، سدا منيعا في منع إجراء الانتقال السياسي والثقافي الواسع. ومن هنا، كان الإلحاد جزءا من عقلانية بدت متطرّفة في عقلانيتها وعلمويتها.
بسبب قرب فرنسا من العالم العربي، خصوصا المغاربي، وبسبب انتشار الثقافة الفرنسية، كان للعلمانية الفرنسية أثر بالغ الأهمية على المثقفين العرب، في رؤيتهم لنمط علماني واحد، ثم جاءت التجربة العلمانية في تركيا لتطبع فهما معينا للعلمانية يساوي بينها وبين إقصاء الدين. وتعبر علمانية فرنسا وتركيا عن حالة خاصة جدا. آثرت الأولى الإدماج المدني بالقوة بسبب ثقل الذاكرة المليئة بالدماء الدينية. وآثرت الثانية عملية إقصاء الدين الإسلامي، كونه أحد الأسباب الرئيسية لتخلف العالم الإسلامي، بحسب النخبة الحاكمة آنذاك.
بالطبع، لا يمكن فصل العلمنة عن جذرها التاريخي: نشأت علمانياتٌ تناهض الدين، وتعمل على إقصائه من المجال العام (فرنسا، تركيا)، وعلمانيات تحاول تدمير الدين داخل الذات الإنسانية (الاتحاد السوفييتي)، وعلمانيات ذات عمق بروتستانتي (الولايات المتحدة، كندا، إنكلترا)، لكنها تفسح المجال للأديان وللحرية الدينية بسبب عمق الفكرة الليبرلية فيها. ومع كل هذه التنوعات وغيرها، تبقى العلمانية مفهوما تاريخيا قابلا للتطبيق في كل أنحاء العالم، بدرجات مختلفة باختلاف البنى الاجتماعية والسياسية للمجتمعات، وبمستوى التأثير الديني، فقد تأخذ العلمانية صيغة القبول من دون الاعتراف (الهند)، وهذه أضعف أنواع العلمانيات، إلا أنها مهمة جدا في مجتمعات متنوعة دينيا وإثنيا وطائفيا.
في حالة نزع الخرافة عن الدين، ستؤدي هذه العملية إلى تحويل الدين إلى إيمان محض، منعزل عن معطيات العالم الاجتماعية
حاجة عالمنا العربي ـ الإسلامي للعلمانية لا تقل أهمية وضرورة، على الرغم من اختلاف السياقات الحضارية مع العالمين، الغربي والشرقي. صحيح أنه لا وجود لتاريخٍ مثقلٍ بالنزاعات الدينية، ولا وجود لمشكلاتٍ دينيةٍ في وقتنا الحالي مقارنة بما جرى في أوروبا بداية الحداثة، لكن أهمية تطبيق العلمانية في عالمنا العربي تبدو ملحّةً، ليس فقط على الصعيد الديني، بل وعلى الصعيد السياسي.
نزع السحر من العالم (فيبر) سيؤدي إلى تخفيف الجوانب الخرافية في الدين، والأهم من ذلك إلى تخفيف الخرافة أو نزعها من عالم السياسة. وفي حالة نزع الخرافة عن الدين، ستؤدي هذه العملية إلى تحويل الدين إلى إيمان محض، منعزل عن معطيات العالم الاجتماعية في مرحلة أولى، ثم لا يلبث أن يؤدي إلى إضفاء بعد قيمي محض على السلوك الفردي، وإلى التفكير العقلاني ـ العلمي في تفسير الظواهر. وفي الحالة الثانية، نزع السحر عن السياسة، فإنها ستؤدي إلى جعل السياسة ظاهرة اجتماعية محضة، وما العلمانية بوصفها نظاما سياسيا إلا عملية فصل الدين عن الدولة، وتمايز المجتمع منها.
طرح العلمانية في هذا المفصل التاريخي سيؤدي إلى طرح سؤال الهوية، وهذا يقود إلى طرح سؤال الطائفية كما تنبه إلى ذلك عزمي بشارة
نزع السحر عن السياسة سيؤدي إلى إدراك السياسة وممارستها فعلا إنسانيا محضا خاليا من التحيزات والتأثيرات الدينية، وقد جانب محمد عابد الجابري الصواب، حين قال إن اللاشعور السياسي العربي الإسلامي هو إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني القبلي، في حين أن اللاشعور السياسي، بحسب ريجس دوبريه، هو إظهار ما هو ديني وطائفي في السلوك السياسي.
تساعد العلمانية على إدراك التمايزات بين الديني والسياسي، وبين المجالين، الخاص والعام، بل لا يؤدي هذا التمايز إلى إلغاء الدين بقدر ما يؤدّي إلى تقوية الإيمان، حين ينحصر في الحيز الخاص. هذا الفهم ضروري في هذه المرحلة التي تمر بها الأمة العربية، حيث تعيش حالة مخاض سياسي جديد. ويمكن في هذه المرحلة تأجيل نقاش العلمانية لصالح التركيز على الديمقراطية في مرحلة أولى، لأن طرح العلمانية في هذا المفصل التاريخي سيؤدي إلى طرح سؤال الهوية، وهذا يقود إلى طرح سؤال الطائفية كما تنبه إلى ذلك عزمي بشارة.