12 مارس 2022
الغرب والشرق... عودة إلى الصدام
الصمت الغربي، حيال ما يحدث في سورية والعراق واليمن وليبيا، يكشف اليوم الكثير عن تواطؤ الغرب. وإذا أضيف إليه ما كشفته محاولة الانقلاب في تركيا من "تراخ" غربي، نصبح أمام وقائع تقول الكثير، بات لها تمثّلات على الأرض، وتخيّلات في أذهان سكان الجنوب/ الشرق عن الشمال/ الغرب.
خلال الحرب الباردة، ارتبطت مفردة الغرب في أذهان كثير من شعوب الجنوب وسكان بلدان العالم الثالث بوصفه المستعمر الناهب الذي يقف ضد حرية الشعوب، إذ كانت السمة الأساسية للعصر هي الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، وكان صراعاً يستمد جذوره من مرحلة الاستعمار التي انتهت بثورات وطنية، وقسم العالم إلى شرق/ جنوب مستعمَر، بمواجهة غرب/ شمال مستعمِر، إلى درجة تضرّر منها الطرفان، فالشرق لم يعد يرى في الغرب إلا الاستعمار والرأسمالية، فتحوّل في مخيال شعوب الشرق إلى "الشيطان"/ بتشجيع من أنظمةٍ تبحث عن إيديولوجيات تخدّر بها شعوبها، ما فوّت، في أحيانٍ كثيرة، إمكانية الاستفادة من المنجزات الحضارية التي قدّمها الغرب، وهو ما نراه ماثلا حتى الآن، في الفوات الحضاري الذي تعاني منه أغلب الدول التي اتبعت النموذج الاشتراكي، وجعلت من عداوة الغرب، أي غرب، أيديولوجيا لها.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تغيّرت سمة العصر، من اشتراكية/ رأسمالية، إلى استبداد/ ديمقراطية وإرهاب/ حضارة، الأمر الذي ساهم جزئيا في كسر وتبديد الرؤية الأيديولوجية والمتخيّلة عن الغرب التي سادت إبّان الحرب الباردة، حيث بات يظهر الغرب بأنه الغرب الديمقراطي، الداعم لحقوق الإنسان، من دون أن تختفي كليا الرؤية عن الغرب الذي يفضّل مصالحه دوماً، إلا أنّ الأمر ساهم عملياً في جعل الغرب أقرب إلى الشرق والشمال أقرب إلى الجنوب، من حيث بناء مبادرات مشتركة كثيرة وتعزيز التعاون وبناء المجتمعات المدنية، وهو ما يمكن تلمّسه من مسألة الشراكة الأوروبية مع جنوب المتوسط التي طرحت في زمن ماض، إضافة إلى وجود كثير من مؤسسات ومبادرات الغرب المتعلّقة بحقوق الإنسان والديمقراطية، والتي قدّمت خدمات كثيرة للمنتهكة حقوقهم في الشرق على يد حكوماتهم المستبدة.
هذه الرؤية هي التي كانت سائدة، حين اندلع الربيع العربي، الأمر الذي جعل عدداً غير قليل من الثورات والقوى السياسية المعارضة والطامحة للحرية، تجد في هذا الغرب شريكاً لها في معركتها ضد الاستبداد، فمدّت جسورها نحوه.
إلا أنّ طول عمر الربيع وتحوّلاته المقلقة، ووصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في بداية
الربيع، وصعود "داعش" لاحقا، ووصول الإرهاب إلى أوروبا، بيّن أنّ الغرب الذي أرادته الثورات نصيراً لها، ليس موجوداً، بل هناك الغرب الباحث عن مصالحه، بدءاً من الاتفاق النووي إلى السكوت عن انقلاب المؤسسة العسكرية على الشرعية في مصر، وصولاً إلى ترك ليبيا تغرق في مستنقع الحرب الأهلية، وليس انتهاءً بالتفرّج على انزلاق سورية نحو الفوضى والحرب، طالما هي معركة تستنزف كل خصوم الغرب (وأحيانا حلفاءه): إيران، روسيا، حزب الله، تركيا..
هذا التواطؤ الغربي الذي وصل إلى حد إعادة مد جسور التواصل مع نظام الأسد، تحت ستار محاربة الإرهاب، شكل ارتداداً في وعي الجنوب والشرق عن الغرب مرة أخرى، إذ أعاد إلى الأذهان: الغرب، المستعمر، المتآمر، الإمبريالي.. ولعلّ الانقلاب التركي أعاد إلى الأذهان أكثر من ذلك، أي عودة ذلك الغرب الذي ما زال يفكّر بعقلية المستعمِر، عبر إطاحة الأنظمة التي لا ترضيه، والصمت عن التي ترضيه، حتى لو كانت مستبدة، والأمثلة أكثر من أن تُحصى، ما يطرح أسئلة من نوع: هل كان الغرب قد تغيّر حقاً حتى نلومه اليوم؟ ألم يكن هو من أطاح العراق وأفغانستان ويصمت عن إسرائيل وإرهابها؟ بل أكثر من ذلك، أعاد الأمر طرح أسئلةٍ تتعلق بمبادرات الغرب حول حقوق الإنسان، وعمّا إذا كانت موظّفة أساساً لخدمة المشروع الحقيقي للغرب!
صحيح، ما سبق، إلا أنّه يمكن القول، إنّه ساد في وعي الشرق عن الغرب، غربان، الأول هو المستعمر الباحث عن مصالحه وفق أدوات جديدة، تشكل الديمقراطية واحدةً من أكثر الذرائع تغطية لهذه المصالح. والثاني، الغرب صاحب الإرث الديمقراطي وحقوق الإنسان. أحياناً يتقدم الثاني، وأحيانا الأول، في صراع داخل الغرب نفسه. وسبق أن تحدّث عن الأمر أمين معلوف في كتابه "اختلال العالم"، وهو الأمر الذي يبدو أنّه، اليوم، في مزيد من التطوّر نحو الأسوأ، مع صعود اليمين الأوروبي، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتزايد موجة العداء للمهاجرين وتزايد القبول بسياسة إعلاء الأسوار.
اليوم، تضمر صورة الغرب الديمقراطي، لصالح الغرب "المستعمر"، "المتآمر" "الداعم للاستبدادات".. ما يزيد الهوة وإعلاء الأسوار بين الشرق والغرب، وما يعود بنا عقوداً إلى الوراء، ما يعطي إيحاءً بأنّ العالم يسير نحو الخلف حقاً. وما صعود دونالد ترامب، وتكاثر النزعات الانفصالية، وتكاثر الحديث عن هوية أوروبية "مسيحية"، مهدّدة من هوية "إسلامية" صاعدة في قلب أوروبا، وصعود السلطانية العثمانية التي تذكّر الغرب بماضٍ عثماني مضى.. إلا أحد ظواهر هذا الارتداد الذي سيغذّي، من اليوم وصاعداً، النزعات الضدية في الغرب والشرق على السواء، ما سيشكل أحد المولّدات للتطرّف التي تحتاجها "داعش" وسواها في الشرق، كما يحتاجها اليمين الأوروبي المتطرف وسواه في الغرب.
خلال الحرب الباردة، ارتبطت مفردة الغرب في أذهان كثير من شعوب الجنوب وسكان بلدان العالم الثالث بوصفه المستعمر الناهب الذي يقف ضد حرية الشعوب، إذ كانت السمة الأساسية للعصر هي الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، وكان صراعاً يستمد جذوره من مرحلة الاستعمار التي انتهت بثورات وطنية، وقسم العالم إلى شرق/ جنوب مستعمَر، بمواجهة غرب/ شمال مستعمِر، إلى درجة تضرّر منها الطرفان، فالشرق لم يعد يرى في الغرب إلا الاستعمار والرأسمالية، فتحوّل في مخيال شعوب الشرق إلى "الشيطان"/ بتشجيع من أنظمةٍ تبحث عن إيديولوجيات تخدّر بها شعوبها، ما فوّت، في أحيانٍ كثيرة، إمكانية الاستفادة من المنجزات الحضارية التي قدّمها الغرب، وهو ما نراه ماثلا حتى الآن، في الفوات الحضاري الذي تعاني منه أغلب الدول التي اتبعت النموذج الاشتراكي، وجعلت من عداوة الغرب، أي غرب، أيديولوجيا لها.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تغيّرت سمة العصر، من اشتراكية/ رأسمالية، إلى استبداد/ ديمقراطية وإرهاب/ حضارة، الأمر الذي ساهم جزئيا في كسر وتبديد الرؤية الأيديولوجية والمتخيّلة عن الغرب التي سادت إبّان الحرب الباردة، حيث بات يظهر الغرب بأنه الغرب الديمقراطي، الداعم لحقوق الإنسان، من دون أن تختفي كليا الرؤية عن الغرب الذي يفضّل مصالحه دوماً، إلا أنّ الأمر ساهم عملياً في جعل الغرب أقرب إلى الشرق والشمال أقرب إلى الجنوب، من حيث بناء مبادرات مشتركة كثيرة وتعزيز التعاون وبناء المجتمعات المدنية، وهو ما يمكن تلمّسه من مسألة الشراكة الأوروبية مع جنوب المتوسط التي طرحت في زمن ماض، إضافة إلى وجود كثير من مؤسسات ومبادرات الغرب المتعلّقة بحقوق الإنسان والديمقراطية، والتي قدّمت خدمات كثيرة للمنتهكة حقوقهم في الشرق على يد حكوماتهم المستبدة.
هذه الرؤية هي التي كانت سائدة، حين اندلع الربيع العربي، الأمر الذي جعل عدداً غير قليل من الثورات والقوى السياسية المعارضة والطامحة للحرية، تجد في هذا الغرب شريكاً لها في معركتها ضد الاستبداد، فمدّت جسورها نحوه.
إلا أنّ طول عمر الربيع وتحوّلاته المقلقة، ووصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في بداية
هذا التواطؤ الغربي الذي وصل إلى حد إعادة مد جسور التواصل مع نظام الأسد، تحت ستار محاربة الإرهاب، شكل ارتداداً في وعي الجنوب والشرق عن الغرب مرة أخرى، إذ أعاد إلى الأذهان: الغرب، المستعمر، المتآمر، الإمبريالي.. ولعلّ الانقلاب التركي أعاد إلى الأذهان أكثر من ذلك، أي عودة ذلك الغرب الذي ما زال يفكّر بعقلية المستعمِر، عبر إطاحة الأنظمة التي لا ترضيه، والصمت عن التي ترضيه، حتى لو كانت مستبدة، والأمثلة أكثر من أن تُحصى، ما يطرح أسئلة من نوع: هل كان الغرب قد تغيّر حقاً حتى نلومه اليوم؟ ألم يكن هو من أطاح العراق وأفغانستان ويصمت عن إسرائيل وإرهابها؟ بل أكثر من ذلك، أعاد الأمر طرح أسئلةٍ تتعلق بمبادرات الغرب حول حقوق الإنسان، وعمّا إذا كانت موظّفة أساساً لخدمة المشروع الحقيقي للغرب!
صحيح، ما سبق، إلا أنّه يمكن القول، إنّه ساد في وعي الشرق عن الغرب، غربان، الأول هو المستعمر الباحث عن مصالحه وفق أدوات جديدة، تشكل الديمقراطية واحدةً من أكثر الذرائع تغطية لهذه المصالح. والثاني، الغرب صاحب الإرث الديمقراطي وحقوق الإنسان. أحياناً يتقدم الثاني، وأحيانا الأول، في صراع داخل الغرب نفسه. وسبق أن تحدّث عن الأمر أمين معلوف في كتابه "اختلال العالم"، وهو الأمر الذي يبدو أنّه، اليوم، في مزيد من التطوّر نحو الأسوأ، مع صعود اليمين الأوروبي، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتزايد موجة العداء للمهاجرين وتزايد القبول بسياسة إعلاء الأسوار.
اليوم، تضمر صورة الغرب الديمقراطي، لصالح الغرب "المستعمر"، "المتآمر" "الداعم للاستبدادات".. ما يزيد الهوة وإعلاء الأسوار بين الشرق والغرب، وما يعود بنا عقوداً إلى الوراء، ما يعطي إيحاءً بأنّ العالم يسير نحو الخلف حقاً. وما صعود دونالد ترامب، وتكاثر النزعات الانفصالية، وتكاثر الحديث عن هوية أوروبية "مسيحية"، مهدّدة من هوية "إسلامية" صاعدة في قلب أوروبا، وصعود السلطانية العثمانية التي تذكّر الغرب بماضٍ عثماني مضى.. إلا أحد ظواهر هذا الارتداد الذي سيغذّي، من اليوم وصاعداً، النزعات الضدية في الغرب والشرق على السواء، ما سيشكل أحد المولّدات للتطرّف التي تحتاجها "داعش" وسواها في الشرق، كما يحتاجها اليمين الأوروبي المتطرف وسواه في الغرب.