الغنّوشي الورقة الأصعب على طاولة قيس سعيّد
شكّل سجن رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان السابق والفاعل السياسي الأبرز في المشهد التونسي راشد الغنوشي حدثا استثنائيا، بل زلزالا ستكون له ارتداداتٌ خطيرةٌ في الداخل التونسي وخارجه. ومهما كانت التهم الموجّهة إلى الرجل، ومهما كان قرار القضاء وحكمه، فإن هذا الحدث الذي ينقل الغنّوشي من الشخصية التي أحكمت قبضتها على خيوط اللعبة السياسية في تونس منذ الثورة إلى سجين ينتظر حكما قضائيا (في مكافحة الإرهاب) على خلفية قوله أخيرا إن "تونس بدون يسار أو أي إسلام سياسي أو أي مكوّن آخر هي مشروع لحرب أهلية"، وإن "الذين احتفلوا بالانقلاب استئصاليون وإرهابيون وهم دعاة حرب أهلية"، وهو ما اعتبرته النيابة العمومية تحريضا على الاقتتال.
تزامن إيقاف الغنوشي وقرار الاحتفاظ به في السجن مع قرار من السلطة بغلق مقرّات حركة النهضة التي يتزعمها، وقرار آخر يخص جبهة الخلاص المعارضة لقيس سعيّد، والتي تقودها "النهضة"، ويمنع رسميا اجتماعاتها ونشاطها السياسي داخل مقرّها المركزي. وتجمع قراءاتٌ عديدة على الإقرار بأن ما اتخذته السلطة مؤشّر واضح يرمي إلى إنهاء حركة النهضة وحلها ومجمل الأحزاب الفاعلة والمعارضة لسعيّد. ولا يستبعد أن تعود "النهضة" وهذه الأحزاب إلى العمل السرّي. ويذهب أغلب الفرقاء السياسيين إلى اعتبار سجن الغنوشي ومنع حزبه من النشاط هو الفصل الأخطر لمسلسل الإيقافات والاعتقالات التي انطلقت موجتها بعد إجراءات قيس سعيّد التي اتخذها بتفعيل الفصل 80 من دستور 2014، وأعلنها يوم 25 يوليو/ تموز 2021، وطاولت شخصيات سياسية بارزة معارضة فُتحت في شأنها ملفات قضائية من الوزن الثقيل، بتهمة التآمر على أمن الدولة، وهي التهمة التي تحاول السلطة تثبيتها ... ولكن المعارضة، في مجمل أطيافها وجهات خارجية عديدة، تتمسّك بقوة سردية أن لا علاقة لهذه الإيقافات بالتهم المنسوبة إليها، وأنها مجرّد محاكمات سياسية، غرضها التنكيل بالخصوم ووضع كل معارضي سعيّد قيد الإيقاف، لا سيما في ظل الزمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأصعب للدولة. ويجمع المتابعون للشأن التونسي على عدم الرضا على سياسة الدولة، وعجزها البيّن عن إيجاد الحلول الناجعة للأزمات المتفاقمة التي تردّت إليها تونس. ويرى هؤلاء أن هذه الإيقافات والاعتقالات سابقة سياسية تتنزّل في إطار "التغطية" وإلهاء الرأي العام عن حقيقة هذا العجز وخطورة الوضع المأزوم في البلاد، وفي ظل تصاعد الشكوك بشأن نزاهة (ومصداقية) مجمل الإيقافات والاعتقالات التي تنفذها الأجهزة الأمنية والقضائية تحت عناوين مكافحة الفساد والتصدّي للتآمر على أمن الدولة منذ إعلان قيس سعيّد إجراءاته في يوليو/ تموز 2021، عاد إلى السطح شبح الملفّ الأسود للاعتقالات السياسية والمحاكمات في عهود سابقة من تاريخ الدولة الوطنية منذ الاستقلال (1956) بعناوين حتى لو مختلفة، مثل الخيانة العظمى أو التآمر على أمن الدولة أو الفساد وسوء التصرّف، تظل محاكماتٍ سياسيةً، فالسياقات السياسية والصراعات التي مرّت بها الدولة الوطنية في فترات التغيير العميق للسلطة أو في علاقةٍ بأحداث جسام هزّت أركان النظام وأربكته، أكّدت دائما في إبّانها وبعد مرور عشرات السنين على وقوعها في شبهة الفرز القضائي على خلفية البعد السياسي. وفي تونس سجلٌّ حافلٌ بهذه المحاكمات السياسية التي طاولت شخصياتٍ بارزة وفاعلة في تاريخ الدولة التونسية، فبورقيبة مثلا وبعيد سنة وبضعة أشهر من استقلال البلاد، ألغى النظام الملكي ليعلن المجلس التأسيسي يوم 25 يوليو/ تموز 1957 النظام الجمهوري، ليصبح رئيسا للجمهورية الذي بادر فورا بوضع باي تونس الأمين باي صحبة ولي عهده وأبنائه الثلاثة وصهره رهن الإقامة الجبرية، ثم ينقل الباي مع زوجته سنة 1958 إلى الإقامة بمنزل متواضع مع مصادرة كل أملاكه.
يخشى أن يعيد التاريخ نفسه، إذ يقبع اليوم في السجون كثيرون من رموز حركة النهضة، أبرزهم رئيسها راشد الغنّوشي وقادتها
ويذكر التاريخ أن باي تونس الأخير، والذي استقلت البلاد في عهده من الاستعمار الفرنسي، مات فقيرا مُعدما في ظروفٍ غير إنسانية. أما الصراع البورقيبي اليوسفي (صالح بن يوسف) فكان الفصل الثاني من محاكمات دولة الاستقلال المعارضين. ولعل محاكمة وزير بورقيبة الأقوى، أحمد بن صالح، كانت من أبرز تلك المحاكمات ذات الطابع السياسي، فقد قدّم بورقيبة وزيره الاشتراكي كبش فداء بعد فشل التجربة الاشتراكية خلال الستينيات التي نفذها بن صالح بمباركة النظام وتعليمات "المجاهد الأكبر" شخصيا. وتتالت المحاكمات السياسية لتشمل مجموعة "بارسبكتيف" والعامل التونسي، وصولا إلى أحداث يناير/ كانون الثاني 1978 والصدام الدموي بين السلطة والاتحاد التونسي العام للشغل، والذي تم بموجبه اعتقال الأمين العام للاتحاد، الراحل الحبيب عاشور. وتكرّرت محاكمة النقابيين في ما عرفت بأحداث الخبز سنة 1984، ومعلوم أن المحكمة العليا تعاطت مع تلك الأحداث كعمل إجرامي، يهدف إلى ضرب استقرار الدولة والتآمر على أمنها، وهي تهم خطيرة، وبعيدة كل البعد عن ممارسة الحق النقابي. ولعل محاكمة رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي (1986)، الذي أسعفه هروبه إلى الجزائر، ومنها إلى باريس، ليعيش في المنفى، ورفقائه، أمثال أحمد القديدي وأحمد بنور، تبقى محاكمة سياسية سوداء في تاريخ بورقيبة وغيره. ومع انقلاب 7 نوفمبر/ تشرين الثاني (1987) الذي قاده الوزير الأول آنذاك ووزير الداخلية زين العابدين بن علي، بدأ فصل آخر من الاعتقالات السياسية، استهدف وزراء بورقيبة والشخصيات الأقرب له، منهم محمد الصياح ومنصور الصخيري ومحمود بن حسين ومحجوب بن علي. ورغم الوعود الخلابة للتغيير المبارك، كما كان يُطلق عليه، لم تمض سنوات قليلة حتى برز الوجه الحقيقي لبن علي تضييقا على الحرّيات، ورصدا ممنهجا لخطوات المعارضين لنظامه البوليسي الذي فتح عهدا أسود آخر من المحاكمات السياسية، حيث جرى إيقاف شخصيات سياسية وقيادات أمنية وعسكرية بتهم مختلفة، ولكن أغلبها كانت إيقافات تحفظية بعيدة عن تهم الفساد باعتبار نظافة اليد التي كانت تميّز بورقيبة ووزرائه.
وتعتبر أحداث الحوض المنجمي في 2008 من الأحداث البارزة التي مهّدت لثورة 2011، وسرّعت بسقوط نظام بن علي الذي استغل تلك الأحداث، وهي في الأصل ذات بعد حقوقي نقابي، ليحاكم نشطاء وصحافيين ونقابيين بسبب احتجاج على خلفية مطالب نقابية. ولم يختلف الأمر كثيرا بعد "ثورة الكرامة"، حيث أُحيل أغلب وزراء حكم بن علي ورموزه على القضاء، بالإضافة إلى أصهاره وشخصيات محسوبة على نظامه وموظفين رفيعين في الدولة، وقد مات بعضهم في السجون، وما زال آخرون يتحمّلون تبعات هذه المحاكمات. ومهما يكن من أمر لا يمكن أن يغفل المتابع للشأن العام عن وقائع سنوات الجمر التي تعرّض لها الإسلاميون سجنا وتهجيرا وتنكيلا في العهدين البورقيبي والنوفمبري. ويخشى أن يعيد التاريخ نفسه، إذ يقبع اليوم في السجون كثيرون من رموز حركة النهضة، أبرزهم رئيسها راشد الغنّوشي وقادتها مثل رئيس الحكومة السابق علي لعريض ونور الدين البحيري ومحمد بن سالم.
الخشية أن يمضي سعيّد في طريقه التي صاغها بنفسه ليطاول قتل الزمن السياسي في تونس الاتحاد العام للشغل
وبالعودة إلى اللحظة الراهنة، وفي سياقات سجن الغنّوشي، تزداد خطوط الاشتباك تعقيدا داخليا وخارجيا. ولا أحد يمكن أن يتكهن بما سيكون عليه الوضع السياسي والاجتماعي في الأيام المقبلة في تونس، إذ ما زالت ردود الفعل الداخلية والخارجية تتواتر تجاه سجن الغنّوشي، تتقاطع سياسيا وإقليميا بين رفض اعتقاله والدعوة الفورية إلى الإفراج عنه، وعن كل الشخصيات المعارضة في تونس، ومحاولات ترميم الهوة بين سعيّد ومعارضيه تجاوزا لتعقيدات الأزمة بالحوار، والعودة إلى الديمقراطية، وهو أمرٌ شبه ميؤوس منه، إذ سبق أن أعلن سعيّد رفضه الحوار.
والخشية أن يمضي سعيّد في طريقه التي صاغها بنفسه منذ 13 ديسمبر/ كانون الأول 2021، ليطاول قتل الزمن السياسي في تونس الاتحاد العام للشغل الذي يقود مبادرة للحوار مع منظمات مدنية فاعلة أخرى. والملاحظ أنه على الرغم من إصرار الرئيس على المضي في ما يعلنه وما يقوم به من إجراءات التنكيل بمعارضيه، كما تعتبرها جهات محايدة داخلية وخارجية، يتزايد التعاطف مع الغنّوشي من مجموعات يسارية ومدنية وأطراف عديدة، ترى أن سجن الرجل فصل آخر من فصول المحاكمات السياسية في تونس ومرتكزاتها سالفة الذكر، وقد أعطته صورة عكسية تماما داخل حركة النهضة وخارجها. وحسب رأيهم، أعاد إيقاف الرئيس السابق للبرلمان توطين صورة "الشيخ" في العقول النهضاوية والمتعاطفين معها، حتى الذين أغضبتهم مخرجات مؤتمر الحركة أخيرا (المؤتمر العاشر)، أو من سيستثنيهم المؤتمر المقبل، فقد بادر هؤلاء منذ الساعات الأولى لخبر الإيقاف بإعلان تجاوز خلافاتهم والدعوة إلى التحشيد خلف زعيمهم التاريخي، ليبقى الغنّوشي بذلك رمزا سياسيا والطرف الأهم في المشهد السياسي والورقة الأصعب على طاولة قيس سعيّد.