الفضاء "كومباوند" أثرياء العالم
- "ماذا ستفعل بكل هذه الثروة التي تملكها؟
- سوف أذهب في رحلة إلى الفضاء بمركبتي الخاصة.
في عام 2019 كانت ثروة مدير ومؤسس شركة أمازون الشهيرة للتجارة الإلكترونية ومؤسسها جيف بيزوس تبلغ 131 مليار دولار، فقد نصفها تقريبا عند طلاقه من زوجته ماكنزي، غير أن عام 2020 الذي حمل للبشرية المرض والموت والحصار، كان بمثابة الهبة له، حيث أصبحت التجارة الإلكترونية الطريقة الأكثر أمانا للتسوق في العالم كله، وشركة كشركة أمازون، بشهرتها واتساعها وانتشارها في العالم، سوف تكون خيارا مناسبا للراغبين بالتسوّق، بدءا من مواد التعقيم وأقنعة الوجه، وصولا إلى الأجهزة الكهربائية المنزلية، مرورا بكل ما يمكن أن يحتاجه المرء في حياته اليومية. هذا ما جعل جيف بيزوس يعوّض خسارة الطلاق بالضعف، حيث وصلت ثروته، في الأشهر الأولى من عامنا الحالي، إلى رقم أهّله ليكون أغنى رجل في العالم، برقم يتجاوز 203.7 مليارات دولار، ستجعل من كلفة رحلته إلى الفضاء تشبه كلفة رحلة يقوم بها أحدنا إلى مدينة بحرية في هذا الصيف بالغ الحرارة.
"سوف أذهب في رحلة إلى الفضاء".. هذا أقصى حلم لأي كائن بشري، لا حلم يفوقه في التخيل، (أن أذهب في رحلة سياحية وفي كبسولتي الخاصة)، بيزوس يمكنه امتلاك كل شيء، من الملعقة إلى الطائرة، لكنه تفوّق على الجميع، اشترى مركبة فضائية (نيو شيبرد)، صُنعت له خصيصا، وتدرّب بها على طريقة التعامل مع انعدام الجاذبية في الفضاء. ولأنه "بيزنس مان"، لن يدع فرصة كهذه تفوته للكسب، أقام مزادا عالميا لمرافقته. شخص مجهول دفع ما يقارب 28 مليون دولار وفاز بالمزاد، لكنه لم يتمكّن من مرافقته لتضارب في المواعيد.
يبدو الأمر لشخصٍ من الطبقة المتوسطة في دولة من العالم الثالث أشبه بخبر من أخبار المواقع الهزلية، إذ كيف يعقل أن يدفع أحدهم 28 مليون دولار ثمن أربع دقائق في الفضاء ولا يذهب، ليس لأنه مات أو مرض، بل لتضارب في المواعيد فقط؟ أما ما فعله بيزوس ذاته فهو يقع في بند أغرب من الخيال، فأن تضع مبلغا خياليا لتقضي أريع دقائق في الفضاء، لا تقدّم للبشرية أي فائدة، ولا تنفع معها تبريرات المعجبين بأنها تدعم "سياحة الفضاء" المستقبلية، التي سوف تقتصر على أثرياء العالم لارتفاع تكاليفها، لهو أمر فيه من الدلالة على ما وصلت إليه حال البشرية الكثير.
تسببت الحروب والثورات والكوارث الطبيعية (منها كوفيد 19) والاحتباس الحراري، خلال العقد الماضي، بتشريد ملايين البشر، ودخول عمالة الأطفال وتجارة الرقيق في الظواهر الموضوعة تحت بند الخطر، وفقد الملايين في العالم وظائفهم ومصادر دخولهم البسيطة بسبب الحصار الذي فرضه كوفيد 19. ويكشف الخبراء أن البشرية قادمة على مزيد من الكوارث بسبب الاحتباس الحراري، وأنه يجب تكاتف الجهود الدولية، وتخصيص ميزانية لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولا يبدو أن النظام العالمي مهتمٌ بإيجاد حلول قريبة، بل تزيد سياساته من هول الأزمات تلك ونتائجها المستقبلية المتوقعة. لا يهتم النظام العالمي الذي تحول كله إلى رأسمالي استهلاكي مافياوي بحقوق الكائنات على كوكب الأرض، لا البشر ولا غيرهم من الكائنات الشريكة، إذ يريد هذا النظام استثمار طاقات الكوكب حتى النهاية. هذا ما يفعله دائما تحالف السلطة ورأس المال: استنفاد كل شروط تقدّم البشر وتحسين عيشهم وتحقيق الحد الأدنى من كراماتهم، واستنفاد كل طاقات كوكب الأرض، حتى ليصبح غير صالح للعيش لكائناته الحية.
يمكن القول إن محاولات قضاء دقائق في الفضاء واختراق الأثرياء الغلاف الجوي للأرض (قام الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون برحلة مشابهة قبل أسابيع بمركبة تملكها شركته)، ليست فقط نزوة من نزوات الأثرياء الذين لا يعرفون أين سيصرفون أموالهم، بل هي أيضا تصبّ في السعي لتجريب الحياة بعيدا عن كوكب الأرض، عندما يتدمر كليا بفعل السياسات المتعسّفة التي يمارسها النظام العالمي المافياوي. يدمرون الكوكب ويستنزفونه بالكامل، ويتركونه مع كائناته ضحية استغلالهم، ويحاولون اليوم امتلاك الفضاء، فقد يصلح لأن يكون "كومباوند" خاصا بأثرياء العالم.