الفلسفة في مناهجنا الدراسية
ناقشت الدورة الثانية والأربعون لمنتدى التنمية الخليجي، مطلع شهر فبراير/ شباط الجاري، في الرياض، موضوع "دور المعرفة والثقافة في تعزيز التنمية في دول الخليج العربي"، بمشاركة واسعة من شخصيات أكاديمية وسياسية من مختلف بلدان المنطقة، وقدّمت فيها ست أوراق بحثية، كان لي شرف أن أقدّم إحداها، وسعيت فيها إلى مقاربة "إصلاح منظومة التعليم كشرطٍ للتنمية"، واخترت الوقوف أمام تدريس مادّة الفلسفة في المدارس الثانوية في بلدان المنطقة مثالا.
مع الإقرار بما حققته بلدان مجلس التعاون الخليجي من نجاحات في مجال التعليم، حتى أن تصنيف مؤسسة "كيو. إس" للعام 2024 وضع ثماني جامعات خليجية في قائمة أفضل عشر جامعات عربية. وفي مجال محو الأمية يمكن القول إن بلدان المنطقة حققت نجاحاتٍ لم تبلغها دول عربية كثيرة، لكن هذا لا يعني أن حال التعليم في بلداننا مثالية، فما زالت تعاني من أوجه خلل كثيرة، وما زال الضعف يعتري المناهج الدراسية التي تدرّس في المدارس أولاً، وفي الجامعات تالياً، ومن ذلك غياب أو تهميش مادة بأهمية مادة الفلسفة.
إذا بقيت المناهج الدراسية المعتمدة هي ذاتها، والرؤية أو الفلسفة التعليمية هي نفسها المتبعة الآن في كثير من بلداننا، ستبقى مخرجات التعليم، من حيث الجوهر، كما هي، ولن نشهد النهضة التعليمية المنشودة التي ما انفكّ المفكرون العرب ذوو البصيرة السليمة يطالبون بها، منذ نشر طه حسين كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" في 1938، أو فلنقل منذ تلك الحقبة التي عاشها الرجل، وشهدت السجال بين القديم والجديد، يوم أن كان الجديد يتقدّم، والقديم يتصدّع، حتى لو لم يَنهر.
ثمّة وهم مستحوذ على بعض الأذهان أن التعليم لكي يكون حديثاً وعصرياً، عليه التخلي عن كثير من مكونات منظومته، وأن يتوجّه إلى تلبية ما تُعرف بـ"احتياجات" السوق، التي تتطلب إعداد الشباب للمهن المتاحة في هذه السوق اليوم، وهي مهنٌ تتجه نحو الخدماتية، والوظائف الماليّة والمصرفيّة، التي تتطلب مهارات معينة من نوع معرفة معقولة باللغة الإنجليزيّة، خاصة في المجالات التي يتطلبها هذا النوع من المهن، فضلاً عن كفاءة التعامل مع البرامج الإلكترونيّة، فيما يفترض في التعليم أن يكون منظومة متكاملة من المعارف والقيم المنفتحة على أفق إنسانيّ واسع، ولا تنحصر وظيفته في إعداد من يلبّون متطلبات السوق فحسب، على أهميّة ذلك، وإنما أيضاً وأساساً، إعداد كوادر بتكوين ثقافيّ إنساني منفتح، مع ما يتطلبه ذلك من تدريس للفلسفة والفكر التنويريّ، وقراءة الأدب والاستمتاع بالموسيقى والفنون عامة.
تعدّ إعادة الاعتبار لمادة الفلسفة، من حيث كونها موقفاً ورؤية للحياة وإعلاءً من شأن العقل والتنوير، ضرورة، خصوصاً بالنظر إلى ما تعرّضت له من إقصاء، بل وازدراء وتشويه لمحتواها وجوهرها، فضلًا عن سوء تدريسها، حين تيسّر هذا التدريس في بعض بلدان المنطقة، إذ خضعت الجهات التربوية وسواها لضغوط (وإملاءات) الجماعات المتزمتة، التي اعتبرت الفلسفة من المحرّمات.
لن يكون كافياً إدخال مادّة مثل الفلسفة في المناهج الدراسية، فالأهم هو طبيعة المادّة المنتقاة من تاريخ الفلسفة الحافل والزاخر بالمتناقضات والرؤى المتعدّدة، والأهم من هذا منهج التدريس الذي تقدّم به هذه المادة، وكفاءة التربويين الذين يقدّمونها وطبيعة رؤاهم. وأمرٌ طيبٌ عودة التوجه إلى تدريس الفلسفة في البلدان التي غابت عن مقرّراتها، لكن حتى اللحظة من الصعب الجزم بما إذا كان هذا التوجّه وجد أو سيجد طريقه للتنفيذ، وما إذا كانت المهمة أوليت أو ستولى إلى كفاءات، ممن يدركون أهمية هذه المادّة، ويحسنون تقديمها إلى الطلبة، بطريقة تجعل منها مادة محببة، لا منفرة. وحتى في البلدان التي استمرّ فيها تدريس مادّة الفلسفة ولم يتوقف، فإن شهادات مختصّين تشير إلى أن هذا التدريس، بالصورة التي يتمّ بها، ومن خلال طبيعة البرامج التي تدّرس، ما زال بعيداً عن بلوغ المنشود من الأهداف.
ثمّة دلائلُ ومؤشّراتٌ على أن مكانة الشأن الفلسفي في مجتمعات الخليج آخذة في النمو، رغم كل المُعوّقات والكوابح، من علامات ذلك ظهور وجوه مهتمة بالفلسفة ودارسة لها، ومقدّمة لرؤى جديدة، لفهم التحولات الدائرة من حولنا، سواء في مجتمعاتنا أو في العالم، وفي ذلك تعبير عن جاهزية مجتمعاتنا لمزيدٍ من التحديث الفكري والمجتمعي إن توفرت له شروطه.