الفنّ بين نقل الواقع وخلخلة الثوابت
عرضت منصّة رقميّة أخيراً عملاً دراميّاً، أثار مضمونه جدلاً واسعاً بين مؤيّدين ومعارضين، حيث دارت أحداثه حول امرأة تعاني حرماناً عاطفيّاً مع زوجٍ تفصلها عنه فجوة عُمريّة كبيرة يعاملها بطريقة تغلب عليها القسوة، ثمّ تتزوّج ابنته من طبيب شابّ وسيم تقع المرأة في غرامه، حتى نشأت علاقة غير شرعيّة بين الشابّ والمرأة التي تقع منه بمنزلة حماته، وحملت منه سفاحاً، ويتطوّر الصراع في أحداث العمل بين أبطاله بطريقةٍ يغلب عليها إطار غير منطقي، وصولاً إلى نهاية مأساويّة.
الرسالة الضمنيّة للعمل الدرامي تسليط الضوء على ملابسات العلاقة بين الشابّ وحماته، ودوافع إقدام كلّ منهما على المضيّ خطوة بعد أخرى نحو الآخر، عبر محاولة استدرار تعاطف المشاهدين بصورة متعسّفة مع تلك النوعيّة من العلاقات التي تمثّل انحرافاً وسقوطاً أخلاقيّاً مريعاً، فقد ظهرت المرأة بصورة "الضحيّة" التي تستحقّ التعاطف، فهي مسكينة ومغلوبة على أمرها، تعاني حرماناً عاطفيّاً، والطبيب الشابّ أيضاً ضحيّة لوالدته التي تتزوّج شباباً في مثل عُمره. والخلاصة أن لإقدام الأطراف على الانحراف والسقوط في الخطيئة الأخلاقيّة مبرّرات ومسوّغات، خارجة عن إرادتهم، يتعيّن تفهّمها، وكأنّهم دُفِعوا إليها دفعاً (!)
فور عرضه وقبل انتهاء حلقاته، أثار العمل جدلاً واسع النطاق، حيث رأى معارضوه أنه يضرب الثوابت الأخلاقيّة للمجتمع ضربة في الصميم، في حين رأى المؤيّدون أنه لم يأتِ بأمور من وحي الخيال، وأن مثل تلك العلاقات موجودة في الواقع المُعاش.
ثمّة ثوابت قيميّة وأخلاقيّة في أي مجتمع، تمثّل منظومته ومرجعيّته التي يقوم عليها
ليس هذا العمل الدرامي الأوّل من نوعه، فقد سبقته في السنوات الماضية أعمال فنيّة، قدّمت مضموناً جدليّاً أثار عاصفة من التراشق بين مؤيّد ومعارض، منها الفيلم الذي عرضته منصّة رقميّة منذ نحو عام عن أصدقاء، جمعهم لقاء اكتشفوا فيه أن لكلّ واحد منهم جانباً خفيّاً في حياته تضمّن خيانات وسقطات أخلاقيّة مدويّة، مع إقحام شخصيّة "مثليّة" في العمل من دون أدنى مبرّر، وكان المشهد الأشهر فيه خلع البطلة ملابسها الداخليّة، والأدهى أن بعضهم من التنويرييّن إياهم قد انبروا مدافعين بحرارة عن الفيلم عموماً، وعن ذلك المشهد على وجه الخصوص!
يُشهر صنّاع مثل تلك الأعمال كلمة "الواقعيّة" في وجه خصومهم، وكأنّ وظيفة الفنّ تتوقّف عند نسخ صورة الواقع، بكلّ ما فيها من مثالب وتشوّهات، من دون معالجة تحاول سبْر أغوار الواقع المرير، برصد أبعاده الاجتماعيّة، والفكريّة، والفلسفيّة، والإنسانيّة، وتفكيكها، ثمّ محاولة إقامة واقعٍ موازٍ جديدٍ يتجاوز تلك التشوّهات، ليصير المشهد الجديد أكثر إيجابيّة، وأفضل من حيث المعنى والقيمة بعد التخلّص من قُبح الواقع.
يُصدم مُتتبّع عدّة أعمال فنيّة مصرية في الفترة الأخيرة كثيراً من محتواها، فمن حيث الشكل وتحت مسمّى "الواقعيّة"، جاءت مُترَعة بلغة حواريّة هابطة ومتدنيّة، هبطت إلى الألفاظ السوقيّة والخارجة (وهي بكل أسف آفة عامة اجتاحت الدراما المصريّة في السنوات الأخيرة). ومن حيث المضمون، ركّزت تلك الأعمال على بعض آفات سلوكيّة، وانحرافات أخلاقيّة ظهرت في السنوات الأخيرة، لا تمثّل في أي حال قاعدة في المجتمع، ولا ترقى حتى إلى مستوى الظاهرة، فهي تظلّ مجرّد حالات استثنائيّة. والأدهى أن ذلك المضمون توقّف عن حدّ نقل الواقع من دون معالجته.
قد يظنّ بعضهم أن الخروج عن القوالب النمطيّة أو الأفكار الكلاسيكيّة في الأعمال الفنيّة يحمل لوناً من الجرأة في الطرح
ثمّة ثوابت قيميّة وأخلاقيّة في أي مجتمع، تمثّل منظومته ومرجعيّته التي يقوم عليها، والمعروفة بمصطلح "الأصول"، الكلمة الذهبيّة الجامعة التي تتداولها ألسنة عموم الناس بهدف الاحتكام إلى المرجعيّة، ومحاولة هدم هذه الثوابت هي محاولة صريحة، أو ضمنيّة، لهدم المجتمع. وفي السنوات الأخيرة، وتحت شعارات "الثوريّة"، و"التقدّميّة" المزعومة، والتمرّد على القوالب الاجتماعيّة التقليديّة، وكسر تابوهات الثقافة الأبويّة البالية، وقيود الرجعيّة، ظهرت فئة من "التنويريّين" الجدد الذين يسعون إلى تحطيم هذه "الأصول" القديمة بشتّى الطرق، في مقدمتها الأعمال الفنيّة عبر "تطبيع" العلاقة بين المشاهدين من عموم المجتمع، وبين النماذج المنحرفة من أجل تسويغها وقبولها، كونها تشكّل "العادي والشائع". أمّا الأدهى فهو تصويرها في بعض الأعمال نماذج خيّرة وسويّة، بعكس النماذج الملتزمة بالقيم الأخلاقيّة، فهي نماذج مشوهّة نفسيّاً وإنسانيّاً (!).
وامتدّ الأمر إلى مساحاتٍ جديدة، عبر محاولة كسر التابوهات الدينيّة والاجتماعيّة "القديمة" المغلقة، ومحاولة خلخلة الثوابت القيميّة والأخلاقيّة للمجتمع، عبر تسويغ الانحرافات الفكريّة والسلوكيّة والأخلاقيّة، ومحاولة تطبيع العلاقة بين النماذج الشاذّة (باختلاف أنواع الشذوذ: الديني، الفكري، الجنسي، الأخلاقي) التي تتبنّى خياراتٍ تتصادم مع الثوابت المستقرّة، وبين المجتمع الذي يقف أغلبه موقف المُستنكِر الرافض لها.
لم تكن وظيفة الفنّ يوماً نسخ الفواصل الحواريّة الهابطة والبذيئة، أو نقل ما يدور في الحانات وعلب الليل إلى الناس في بيوتهم، ولم تكن وظيفة الفنّ يوماً التحرّر من القيم الأخلاقيّة عبر ترسيخ القيم السافلة، وتطبيع العلاقة مع الانحرافات الأخلاقيّة، أو تسويغ الخيانات الزوجيّة والعلاقات المشبوهة وغير الشرعيّة.
قد يظنّ بعضهم أن الخروج عن القوالب النمطيّة أو الأفكار الكلاسيكيّة في الأعمال الفنيّة يحمل لوناً من الجرأة في الطرح، والتي تؤدّي إلى ارتفاع نسبة المشاهدات وزيادة الإيرادات، وفقاً لمنطق التجارة والربح الذي لا يميّز خبيث الفنّ من طيّبه. ولكن الخطورة في دسّ السمّ في العسل، عبر الإلحاح بتكرار عرض النماذج المنحرفة الساقطة، من أجل إلفها وإعادة صياغة المفاهيم لدى المشاهدين (سيّما الأجيال الجديدة) لتقبّل الانحرافات الأخلاقيّة بعد اعتياد مشاهدتها، واستيراد "قوالب" من سياق اجتماعي وثقافي مغاير لسياقنا، ومحاولة تصوير الاستثناءات أنها القاعدة أو تمثّل ظاهرة على أقلّّ تقدير (كما هو الحال في المجتمعات الغربيّة). والأدهى الرسالة الضمنيّة التي تقول، وفقاً للمنطق التنويري، إنّ التمسّك بالأصول وبمنظومتنا القيميّة والأخلاقيّة ضرب من ضروب الرجعيّة والتخلّف، والجهر بالدفاع عنها صار "تُهمة" أو شُبهة يستلزم دفعها.