الفيلسوف الألماني والروائي اللبناني
يقرّر مجلس أمناء جائزة الشيخ زايد للكتاب هذه السنة (2021) منح الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، جائزة "شخصية العام الثقافية". وقيمتها أكثر من ربع مليون دولار بقليل. ثم يعلن الفيلسوف رفضه لها. كيف حصل ذلك، والمقيمون على الجائزة صاروا يطلبون من المرشّح لها موافقته قبل تسلّمها رسمياً؟ وقد سبق أن أرسل الفيلسوف هذه الموافقة؟
الموضوع أن هابرماس ليس ضليعاً بمسائل الشرق الأوسط أو الخليج. مجلة دير شبيغل الألمانية أدرى منه. عندما علمت بخبر الجائزة، أصدرت مقالاً عاتبته فيه على قبولها، عنوانه "هابرماس والبروباغندا الإماراتية". ومما كتبت: "إن قبول واحد من أهم الفلاسفة الألمان جائزة دولة تشتهر بالقمع وتنعدم فيها الحياة الديمقراطية مؤشّر يثير الإحباط". قاست المجلة مؤشّر الديموقراطية في الإمارات، وماثلته بإيران وروسيا. فخلصت بتساؤل: "ماذا ستكون ردود الفعل إذا قَبِل ممثل بارز للحياة الفكرية الألمانية جائزة تحت رعاية آية الله خامنئي أو الرئيس فلاديمير بوتين؟". قرأ الفيلسوف التسعيني المقال، آخذ نفَساً، وتراجع عن قبول الجائزة، على قاعدة مقال الصحيفة نفسها، أنه لا يستطيع أن يقبل جائزة يشرف عليها "نظام تسلّطي".
حتى الآن، القصة عادية، تحصل مع جوائز كثيرة، وتكرارها هو ما دفع القيّمين على غالبيتها إلى اشتراط أن يقبلها صاحب الحظ بها. وتحصل أيضاً في المقابل إشادة بالذي رفضها، أو استنكار الرفض ودفاع عن قيمة الجائزة .. إلخ. وقد تدفع "حادثة" الفيلسوف الألماني القيمين على مختلف الجوائز إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات لحمايتها من إهانة رفضها.
أبى الروائي إلا نصب الفخ لنفسه، بأن غاصَ في المزايدة، على الأخلاق وعلى الوطنية وعلى الشرف الثقافي، فيما هو يرتكب معصية النفاق
ولكن في هذه الأثناء، لا بدّ أن تحصل عندنا عجائب الأمور. روائي لبنان معروف. حصل بين الأعوام 2006 و2017 على أربع جوائز: سلطان بن علي العويس (دبي)، اليونسكو - الشارقة للثقافة العربية، وكلتاهما إماراتيتان، إحدى جوائز القائمة القصيرة الست للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، والتي تموّلها أبوظبي، وجائزة كتارا (القطرية) للرواية العربية. وباحتساب مجمل هذه الجوائز، يمكن القول إن هذا الروائي نال 220 ألف دولار، قيمة الجوائز الأربع.
ماذا يفعل هذا الروائي المعروف؟ يكتب مقالاً في صحيفة عربية، عنوانه "هابرماس وشرف الثقافة"، وفيه مطوَّلات من المزايدة على الفيلسوف الألماني. بأن نعم، معه حق هابرماس برفضه الجائزة. ثم خطاب من نوع: أيها الروائيون المناضلون العرب، الذين تقدّموا بطلب الترشّح لجائزة "بوكر"، دافِعوا عن شرف الثقافة العربية، وتعالوا قاطعوا هذه الجائزة، بعدما أسفرت الإمارات عن زحفها "التطبيعي التتبعي". وفي هذه المقالة القصيرة، لا يتوقف الروائي عن دعم حجته بـ"الأخلاق"، يستحضرها أربع مرات. وباسمها يوجّه إلى الكتاب العرب تساؤلاتٍ تشبه المرافعة: "هل فقدت الثقافة العربية شرفها وتخلّت عن القيم الأخلاقية التي تدعو إلى استقلالية المثقف، وتفترض أن دوره هو الوقوف في وجه الظلم والاستبداد؟". فيجيب بأحكام مبْرمة: "لا شيء يبرّر هذا الانحطاط الأخلاقي. كنا ننتظر من الكتاب مقاطعة هذه الجوائز المغمَّسة بالاستبداد، وإدانة هذه الحفلة التطبيعية التنكرية المشينة. لكن للأسف، فإن المتدافعين على نيل جوائز السلطان لم يردعهم أي اعتبار أخلاقي". ثم يدعو إلى الاقتداء بالفيلسوف الألماني: "هل يوقظ هذا الموقف الأخلاقي المثقفين العرب من سُباتهم، ومن خطر تحوّلهم إلى مثقفي بلاط، ومتواطئين مع الاستبداد والتتبيع التطبيعي مع إسرائيل؟". وحجّة إسرائيل هذه، لم يتناولها الفيلسوف الألماني، ولا المجلة التي دعته إلى تصحيح خطئه.
ماذا دها الروائي اللبناني؟ كيف بلغ به الأمر بأن صار شبيهاً بالسياسي اللبناني: يقول غير ما يفعل؟
ماذا دها الروائي اللبناني؟ كيف بلغ به الأمر بأن صار شبيهاً بالسياسي اللبناني: يقول غير ما يفعل؟ يفعل غير ما يقول؟ يقوّل غيرَه ما لم يقلْه؟ كان يمكن أن يصمت، مثلاً، عملاً بالحكمة القائلة "وإن بُليتم بالمعاصي...". والصمت في هذه الحالة خير دفاعٍ عن النفس، بأن ينساك الناس والمتربّصون بالناجحين، "أعداء النجاح"... ولكنه أبى إلا نصب الفخ لنفسه، بأن غاصَ في المزايدة، على الأخلاق وعلى الوطنية وعلى الشرف الثقافي، فيما هو يرتكب معصية النفاق.. وأصبح مطروحاً عليه سؤال مصداقيته، بأنه لو فعلاً هو هكذا، "مناضل بأدبه من أجل الحرية والوطنية"، فما عليه سوى إعادة الجوائز- المبالغ إلى أصحابها الإماراتيين، "المستبدّين التطبيعيين".
لماذا؟ لماذا يتورّط الروائي اللبناني أخلاقياً، فيما هو لا ينادي إلا بالأخلاق على ألوانها؟ ربما أراد إراحة ضميره "النضالي" بأن يسجّل موقفاً يعتبره "صعباً"، لكنه مطلوبٌ لحماية صورته. وإلا ذهبت هالة "النضالية" أدراج الرياح. ربما، أيضاً، لأن أخلاق المزايدة الشعبوية هي ما تبقّى له من نضاليته السابقة. أو ما ترسّب إليه، بحكم العادة المتأصّلة. أو أنه، عن سبق تصوّر وتصميم، وبكامل وعيه، أراد أن يفعل ما يفعله "الرايتينغ": إثارة العدد الأعلى من ردود الفعل. والسلبية منها، خصوصاً تلك الآتية من "أعداء الأمة"، أكثر فائدةً من الإيجابية.. أو أسباب أخرى، لم نفهمها.
"مفهومي لعمل الكاتب: الكاتب الذي يحمل مبادئ سياسية أو اجتماعية أو أدبية لا يجب أن يتصرّف إلا بقوّته الذاتية، أي الكلمة المكتوبة. وكل الجوائز التي يمكن أن ينالها تعرّض قرّاءه لضغط لا أجده حميداً (...). وعلى الرغم من ميولي الاشتراكية، فأنا لستُ قادراً على قبول جائزة لينين مثلاً". تلك كانت إجابات الفيلسوف الفرنسي الراحل، جان بول سارتر، عن أسئلة صحافية سويدية حاورته حول أسباب رفضة جائزة نوبل للآداب عام 1964.