القانون لا يثأر
انشغلت بريطانيا، في نهاية العام الماضي، بحملة فريدة من نوعها، أطلقتها أسرة ضابط الشرطة أندرو هاربر، للمطالبة بعقوبات أكثر صرامة ضد قتلة نجلهم. كان الضابط هاربر قد فقد حياته، حين حاول منع ثلاثة لصوص من سرقة دراجة نارية رباعية، لكن الجناة حصلوا على أحكام بالسجن بين 13 و16عاماً فقط.
طالبت الحملة بتعديل تشريعي، يتضمن الحكم بالسجن مدى الحياة على من يقتل أحد أفراد خدمات الطوارئ، مثل الضباط والأطباء والمسعفين ونحوهم. نال المطلب دعماً قوياً من "اتحاد الشرطة في إنكلترا وويلز"، وهو تنظيم نقابي يضم نحو 120 ألف منتسب. وحظيت الحملة بتغطية إعلامية واسعة، خصوصاً أن صور الفقيد الوسيم مع زوجته الجميلة أو أمه الودود قد نالت تعاطفاً وانتشاراً كبيرين. في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، شارك خمسة آلاف راكب دراجة نارّية في "موكب احترام" بين سلاح الجو الملكي البريطاني ومطار أبينغدون. إلا أن هذا كله لم يغيّر من موقف القضاء، أو يدفع البرلمان إلى تعديل القانون، بل تم رفض طلب النيابة بإعادة المحاكمة بالاستئناف، إذ إن الأحكام "متساهلة على نحو غير ملائم".
واقعة مشابهة حدثت قبل أيام في أستراليا، حيث احتجّت أسر ضباط شرطة على حكم مخفّف حصل عليه شخص صوّرهم وسخر منهم في أثناء احتضارهم! كان بوسي الذي يعمل مسوقاً عقارياً قد تعرّض للإيقاف من أربعة رجال شرطة بسبب سرعة قيادته، إلا أن شاحنة صدمتهم بشكل مفاجئ على بعد أمتار قليلة منه، فما كان من بوسي إلا أن أخرج هاتفه وبدأ في تصويرهم وإطلاق تعليقات شامتة وساخرة قبل أن يغادر بدم بارد. يُظهر التسجيل بوسي وهو يقول لشرطيةٍ ما زالت حية على الأرجح، "ها أنتِ تذهبين. كم هو أمر رائع!". قال زوجها "لا يمكنني وصف الألم الذي أعانيه حين أتذكّر كيف عوملت زوجتي في لحظاتها الأخيرة".
نال بوسي حكماً بالسجن عشرة أشهر فقط، وهو ما لقي انتقاداً واسعاً. وصف القاضي سلوك بوسي بأنه "بلا قلب وقاس ومشين"، لكنه قال أيضاً إن وسائل الإعلام شيطنت بوسي إلى الحد الذي ربما أصبح معه "أكثر شخصٍ مكروه في أستراليا".
لماذا لا يستجيب القضاء أو الحكومات لنوازع البشر الهادفة إلى أقصى انتقام؟ لأن هذا ليس دور القانون. تقوم البنية التشريعية والقانونية في الدولة الحديثة على مبادئ معروفة، مثل لا عقوبة إلا بنص، وباتهامات وأدلة فردية، وكذلك مبادئ المساواة أمام القانون، وغرض الردع والتقويم والإصلاح لا الانتقام، أما البشاعة والمشاعر الفردية، فضلاً عن الأهداف السياسية، فهي أمور تخلّ ببنية الدولة، أي دولة.
نشهد في بلادنا جدلياتٍ بعيدة كل البعد. شهدنا في مصر استنكار أحد الإعلاميين دخول أنواع من الطعام لمسجون يكرهه، على الرغم من أن العقوبة القانونية هي السجن، لا التنكيل، كما شهدنا التحريض على عقوباتٍ قصوى بجرائم لا تحتمل تلك العقوبات قانوناً. على سبيل المثال، التمثيل بجثث الموتى ممارسة بالغة البشاعة أخلاقياً ونفسياً، إلا أنها في القانون المصري ليست جناية بل جنحة، وأقصى عقوبة عليها هي السجن ثلاث سنوات.
وبالطبع، شهدنا مراراً شخصية القاضي ذي الآراء السياسية والشخصية المعلنة، حتى إن بعضهم حصل على ألقاب من الصحافة مثل "أسد القضاة" و"قاضي الإعدامات". وقد ترتبط الأحكام أو تنفيذها بأجواء سياسية أو إعلامية، بل إن تنفيذ الإعدامات بقضية سياسية يتم احتسابه ثأراً لوقائع أخرى، كأنه منطق قبيلةٍ تنتقم من أبناء قبيلة أخرى، وليس إجراءً قانونياً محايداً ضد أشخاص بعينهم في وقائع بعينها.
الظاهرة أوسع من السياسة، ومتجذّرة بالثقافة الشعبية. نشاهد تعليقات تطالب "بالإعدام في ميدان عام" بشكل متكرّر، على الرغم من أن ممارسة الإعدام العلني الوحشية انتهت من العالم منذ نحو قرن. وكذلك نشاهد تطبيعاً مع فكرة الاعتداء بالضرب على اللصوص، حتى إن الأمثال الشعبية تتحدّث عن ضرب "حرامي في مولد". بالقانون يتحوّل هذا اللص إلى مجني عليه بواقعة الاعتداء، إلا أن أحداً لا يعبأ.
إذا كانت أدوات التغيير السياسي والحركي عاجزة، فلا يوجد ما يمنع من المثابرة على التغيير الفكري، وفتح مناقشاتٍ ومراجعاتٍ مستمرةٍ حول مفاهيم الدولة والقانون والعدالة.