القدر يقسو على حزب الله في منحدر الكحّالة
المنُحدَر معروف باسم "كوع الكحالة". ليس كغيره من الأكواع، حادّ وخطير. يقع على الطريق الدولي بين دمشق وبيروت، وفي بلدة اسمها الكحالة. تصيَّد منذ افتتاحه عشرات الحوادث لسيارات وشاحنات، تعطّلت فراملها، أو سها سائقوها. القدر وحدَه، منذ أيام، أراد أن تكون ضحية هذا "الكوع" شاحنةٌ لحزب الله، محمّلة بالسلاح أو بالذخائر وأشياء أخرى ربما.
القدر وحده، نقول، وليس رصاصة نفّست دواليبها أو حجارة أصابت رأس قائدها. ولولاه، لما ظهرت أمام الملأ واحدةٌ من أنشطة حزب الله على طول الأراضي اللبنانية وعرضها. لولاه، لكانت الشاحنة تابعت طريقها، وكأن شيئا لم يكن. ولكن القدر، هذه المرّة، حيادي وصادق. لا يسمح بأي صرخةٍ من نوع "مؤامرة" على حزب الله، أو كمين "صهيوني" من النوع الأحب إلى قلب هذا الحزب، أو حتى بوادر "تكْويعة" سعودية، بعد انتهاء شهر العسل السعودي الإيراني.
بعد انزلاق الشاحنة، هبّ الأهالي لنجدة سائقها. اعتقدوا، في البداية، أنهم أمام مركبة عادية. واكتشفوا بعد حين سلاحاً، ذخيرة أو صواريخ، تحت الشادر الذي يغطّيه. وفهموا أنها ملك حزب الله، فاحتجوا. لكن السائق ورفاقه لم يتحمّلوا الإحتجاج، وصاروا يطلقون النار إرهابا، فهبّ أهل البلدة، من بعض الذين يملكون سلاحاً فردياً، وتبادلوا إطلاق نار، أودى بحياة أحد سكاّنها وعنصر من حمَلة سلاح الحزب. حصل ذلك كله في دقائق، فكانت ردود الفعل عليه تسخر من القدر ومن مترتّباته.
غرفت الدفعة الأولى من التعليقات في التاريخ القريب: آه، الكحّالة ... من زمان ... والكمائن التي نصبها أهلها ضد المسلمين الذاهبين إلى دمشق لتحية جمال عبد الناصر في نهاية خمسينات القرن الماضي، أو الفلسطينيين الذين كانوا يسلكون الطريق، مشيّعين أو محمّلين بالسلاح عشية الحرب الأهلية الكحّالة وتاريخ أبنائها المشحون ضد المسلمين والفلسطينيين. وهذا الغَرف من قديمنا لا يرى أن لا الشاحنة ولا الأهالي كانوا مهيئين لهذا النوع من الاشتباك، كما كانوا في تلك الأحداث المنْبوشة من التاريخ، وأن القدر وحده صانع الحدث، وأن "التاريخ" لا يتكرّر دائماً، مرّة بتراجيديا ومرّة بكوميديا، وربما لا يتكرّر أبداً. وكفى ماركس استشهاد بقوله المأثور الذي تبهدل.
كلما دافع الحزب عن نفسه كبرت كذبته... ما يساهم في تراجع مصداقيته
ولكن المتفوّقين أنفسهم في التعليق كانوا: "كتلة الوفاء للمقاومة"، أي نواب حزب الله في البرلمان، والمفتي الجعفري الممتاز، الشيخ أحمد قبلان، صاحب "التكليفات الشرعية" بالتصويت للثنائي أمل - حزب الله. الأولى، الكتلة، رأت في الحادثة "توتيراً مبرمجاً"، و"ظهوراً مليشياوياً في الكحّالة"، وأن ما حصل أتى في سياق "التحريض والتعبئة التي تشكّل مادّة فتنوية". والثاني، الشيخ قبلان، إتهم أهل الكحّالة ببدء الحرب، وهدَّدهم بفلاديمير بوتين: "أحذّر البعض الذي قد يبدأ الحرب، أنها ستأكله أولاً، فهذه أوكرانيا لم تعد دولة ذات سيادة، بل أصبحت مقبرة للموت وملعباً للمصالح الدولية".
كانت ثمّة تعليقات مناقضة طبعاً، خصوصاً بين الشخصيات والأحزاب المسيحية. وعلى الرغم من أن جبران باسيل وجد فيها فرصة أخرى لابتزاز حزب الله بالمسيحيين الغاضبين منه، وأن هذا الغضب لو أعطيت له رئاسة الجمهورية سوف يُخمده بالرشاوى و"الحصص" على أحسن وجه. وقد ينافسه على ذلك المرشّح المسيحي الآخر للحزب، سليمان فرنجية... غير أن الكلمة التي تردّدت على طول الخط أن حزب الله خسر "التغطية" المسيحية، ما يُنذر بفقدانه آخر الأقليات التي بنى مجده "الفكري" على ولائها، هو وبشّار الأسد.
فيما كان الإعلام الموالي لحزب الله يفصّل رأيه حول الحادثة، متوسّعاً في آراء المفتي الجعفري ونواب حزب الله، كيف رأى هذا الإعلام الواقعة؟ إليك خلاصته: أعداء حزب الله لا يكترثون سوى للمال، يقرعون طبول الحرب، يغيّبون الدولة ولا يتحمّلون مسؤوليتها، يحرّضون من أجل الفتنة الطائفية والمناطقية، والاقتتال الداخلي، ومشاريع الفدْرلة، أي التقسيم. وعن أهالي الكحّالة المدافعين عن أنفسهم: "ولم يرفّ لهم جفن إزاء وجود سلاحٍ متفلّتٍ جاهز للقتل بين البيوت"...
حسناً. الآن، كل تلك المفردات التي يعتمدها رجال حزب الله وإعلامه لوصف خصومه: فتنة، تحريض طائفي، غياب سيادة وطنية، مليشيا، طبول الحرب، سلاح متفلت... وغيرها القديمة من أنه هو "المقاومة"، وأن من يعترضه خائن عميل صهيوني. كيف يمكن وصفها، هذه المفردات؟ ماذا يمكن أن يقول المرء أمام هذا المشهد الذي صار مألوفاً في لبنان: أن حامل الموبقات هو نفسه يصف خصومه بها؟ أن الحزب الذي نسفَ كل شيء، من الدولة إلى السيادة إلى الدستور والقانون إلى التعايش الطائفي ... يتباكى عليها في هذه اللحظة؟
وفي حالة كهذه، يحتاج الحزب إلى كلمة "تغطية" أكثر من أي وقت مضى. يحتاج إلى تغطية ليستمرّ بسلاحه. تغطية، ليس فقط من الطوائف الأخرى، وإنما أيضا من المؤسّسات والبرلمان والرئاسة والوزارات. يحتاج إليهم كلهم، ليكون استخدامه إيرانيا ذا مفعول، ليكون ذا حرمة دولية، ليُفْرض على اللبنانيين، بالسلاح، لكن باسم القانون والدستور والتوافق. و"التغطية"، هنا أيضاً، تدخل في نطاق التزوير العلني.
يحتاج حزب الله إلى تغطية، ليس فقط من الطوائف الأخرى، وإنما أيضاً من المؤسّسات والبرلمان والرئاسة والوزارات
ما الذي تغيّر بعد "حادثة" كوع الكحالة؟ أنه أضيف إلى سجل الحزب تاريخ جديد، برسم المراكمة، أو الأرشفة، بلغ فيه الحزب مرتبةُ لغوية جديدة، كانت براعمها تطلّ من حين إلى آخر، ولا مرّة بهذه الكثافة، بهذه المنهجية في قلب خطيئة "عادية" يرتكبها الحزب بانتظامٍ من دون سؤال... ولكن هذه المرّة، السؤال باقٍ، بفضل القدر.
فلنراجع قليلاً محطّات "نضال" هذا الحزب لحماية سلاحه: اغتيال رفيق الحريري، الذي اتُهِم به الحزب؟ إسرائيل، هي التي اغتالته. حرب تموز 2006؟ ليست أقل من "انتصار إلهي تاريخي استراتيجي"... على إسرائيل التي لن تعرف من بعدها، إلا قرع طبول الحرب، مجرّد قرع؟ أم على لبنان واللبنانيين؟ غزوة بيروت في 7 أيار؟ "عملية مجيدة". ثورة 17 تشرين؟ مؤامرة أميركية ضد "المقاومة". إنفجار المرفأ؟ حادثة مؤسفة، قضاء وقدر. أهل قرية شويا الدروز الرافضين لصواريخه على أطرافها؟ عملاء صهاينة. ومثلهم أهل خلدة، السنّة، الذين ضاقوا بزُعْرانه. حادثة حيّ الطيونة المسيحي؟ "لدينا مائة ألف مقاتل" (في تعليق حسن نصر الله عليها).
والآن، كوع الكحّالة؟ كلما دافع الحزب عن نفسه كبرت كذبته... ما يساهم في تراجع مصداقيته. ولكن هذا لا يعني أنه تراجع هو. بل قد يشتدّ عنفه. لأنه مشْبع بـ"الإنتصارات"، لا يستطيع أن يتصوّر نفسه إلا سيداً مطلقاً على مصير اللبنانيين وأرواحهم. لكنّ هذا لا يعفيه من الإجابة عن سؤالٍ سوف يشتدّ وقعه بعد الكحالة: ماذا يريد حزب الله بالضبط؟ ما هو مشروعُه الحقيقي للبنان؟ وهي إجابة تحتاج إلى شيء آخر غير خطب الاستكبار والاستضعاف... المحذِّرة، المهدِّدة، المكرَّرة ... والتي تنْضح بالمَلَل.