القدس وشيء من فرويد
... إذن، لم تنته حرب حزيران 1967 بعد، ولم يكتمل انتصار دولة الاحتلال فيها تماما. يدلّ على هذا القول الهياج العُصابي الذي يرتكبه المستوطنون اليهود، المستقدَمون إلى أرض فلسطين، وصاروا إسرائيليين، في باحات المسجد الأقصى، في هذه الأيام، بمناسبة عيدٍ يهودي، وهو هياجٌ عدوانيٌّ يتكرّر في اقتحاماتٍ مشهودة. ومثلها استباحات شرطة الاحتلال وجنوده المسجد المبارك، والتي جدّ جديدٌ منها في هذا الأسبوع. وفي الذي انكتب وجرى توثيقه، أن القوات الأردنية قاتلت ببسالةٍ أربع ساعات قوات العدوان الإسرائيلي يوم 6 يونيو/ حزيران، قبل أن تتمكّن هذه من التقدّم نحو البلدة القديمة، وتصل طلائع منها في العاشرة صباح 7 يونيو إلى ساحات "الأقصى"، وتحتفل فيها بزهو وشرب الخمور. ليجري بعد مساء اليوم التالي تدمير حي المغاربة المتاخم للحرم القدسي الشريف، وجرف 135 منزلا فيه، لتُنذر هذه الجريمة بالذي واظبت دولة الاحتلال على اقترافه فيما بعد في المدينة المقدّسة، استيطانا وتهويدا ومحاولاتٍ لمحو الهوية العربية وطردا للسكان وتضييقا عليهم، وذلك كله وغيره مما يؤشّر إلى البديهي المنظور، وموجزُه أن جولات المواجهة، في هبّاتٍ وانتفاضاتٍ وعملياتٍ فدائية، مع المحتل في القدس، لا تدلّ على غير البديهية أعلاه أن تلك الحرب لم تنته، وأنه أنّى للمستوطن الإسرائيلي المسلّح أن ينتصر.
والهياج العصابي الموصوف ليس طارئا على العقل الذي تتوطّن فيه نزعة الاستحواذ والنهب، والخطورة الأشدّ فيه أنه مشحونٌ بمعتقد ديني، بأفكار وأساطير وخرافات. والمؤكّد المعايَن أن الفلسطينيين لا يتعبون، ولن يتعبوا، في هذه المعركة التي لا يُراد لها أن تتوقّف، منذ ثورة البراق في 1929، عندما استُشهد 110 فلسطينيين وقُتل 133 مستوطنا. والظاهر أن الإسرائيليين لم يتوسّلوا لأنفسهم النجاة في هذا الصراع المديد، عندما لم يأخذوا بالذي نصحَهم به فرويد (1939)، في ردّه على رسالةٍ تلقاها في تلك الأثناء من عضو "مؤسسة إعادة توطين اليهود في فلسطين"، حاييم كوفلر، طلبت منه دعمه المشروع الصهيوني في فلسطين، بعد الأحداث التي شهدتها القدس وصفد والخليل ويافا إبّان ثورة البراق. لم يُخف عالم النفس الشهير، النمساوي اليهودي، في رسالة ردّه، "أجمل مشاعر التعاطف"، غير أنه لم يُبدِ حماسا لما أُريدَ منه، بل كتب بوضوح عن حكمه "المتحفّظ عن الصهيونية". وقال إنه لا يعتقد "أن فلسطين يمكن أبدا أن تصبح دولة يهودية، ولا أن العالم المسيحي، على غرار العالم الإسلامي، يمكنهما أن يكونا مستعدّين، في يوم ما، لأن يكلفا اليهود بحراسة أماكنهما المقدّسة". وأضاف "أعترف أيضا، بكل أسف، أن تعصّب مواطنينا غير الواقعي يتحمّل جانبا من المسؤولية في إثارة ريبة العرب. لا يمكنني أن أحسّ بتعاطفٍ مع أي تأويل سيئ للتديّن، يجعل قطعةً من سور هيرود (حائط البراق عند المسلمين المسمّى حائط المبكى عند اليهود) ذخيرةً قومية، ويتحدّى بسببها مشاعر سكان البلد".
ولكنها إسرائيل دولة المسحال (الجيش) التي نهضت على أسسٍ دينية ليس في مقدورها أن تتخفّف مما ألحّ فرويد على أن تتخفّف منه، بشأن الأماكن المقدّسة في القدس. وهذا هو ما يجعل الذي تشهده القدس في هذه الأيام، من اعتداءات صهاينةٍ عنصريين متعصّبين على المسجد الأقصى، يتكرّر. لقد صحا رئيس وزراء إسرائيل، السبعيني ليفي أشكول، من نومه في منتصف ليلة 4 يونيو/ حزيران 1967، ليحدّث زوجته الثلاثينية (أمينة مكتبه في الكنيست السابقة)، عن القدس حلما سيتحقّق بعد ساعات. القدس التي لا يكتمل المشروع الصهيوني إلا باحتلالها، وبانفراد إسرائيل بتقرير مستقبلها، لتبقى "أورشليم" عاصمة واحدة موحدّة لها، عندما لا تحترم اعتبارات الأمم المتحدة والقانون الدولي التي تعيّن شرقي المدينة جزءا من الضفة الغربية المحتلة في حرب حزيران 1967. لم تتوقف إسرائيل يوما عن استقدام المستوطنين إليها وحواليها، وقد صار هؤلاء نحو 220 ألفا، بين 350 ألف مقدسي فلسطيني ما زالت تعوزُهم المؤسّسات القوية التي تسند صمودهم وبقاءهم ومقاومتهم المحتلّين وحمايتهم زهرة المدائن.
لم يُغلَق قوس حزيران 1967 في القدس، ولن يُغلَق، ما دام الصهاينة المحتلون لم يقتنعوا بعد بأن حائط المبكي لا يصلح ذخيرةً قومية. أخبرهم فرويد بهذا قبل أزيد من 90 عاما، وحذّرهم من تعصّب "مواطنيه" اليهود، والمشاهَِد من باحات الأقصى تفيد بأنهم في غير هذا الوارد، ولن يرعووا.