القرم نقطة ضعف بوتين
عشية يوم الخميس 18 أغسطس/ آب الجاري وقعت انفجارات عنيفة في شبه جزيرة القرم، وذلك في قاعدة بلبيك الجوية العسكرية شمالي سيفاستوبول، المنطقة الحيوية بالنسبة لروسيا، لاحتوائها مركز العمليات الرئيسي لأسطول روسيا البحري، وعلى مقربة من الجسر البرّي الواصل بين الأراضي الروسية والقرم في مدينة كريتش، ما فتح فصلاً جديداً من المواجهة بين كييف وموسكو، وفي إطار أوسع بين الغرب وروسيا.
كان توقيت الاستهداف لافتاً من حيث تزامنه مع عقد قمة في مدينة لفيف غربي أوكرانيا، وبحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس والرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، إذ كانت الآمال مرتفعة، خصوصاً من أردوغان الذي ذهب إلى لفيف، وفي جعبته ملفات وأهداف سياسية واقتصادية كثيرة، فبعد نجاحه أخيراً في إعلاء شأن إسطنبول مركزاً لتصدير الحبوب عالمياً، يعمل اليوم على تكريس دعائم سياسته الخارجية، بين الأطراف المتنازعة في الساحة الأوكرانية، والإسراع لجني مكاسب جديدة يحتاجها قُبيل موعد الانتخابات في يونيو/ حزيران من العام المقبل.
على قاعدة "رابح رابح للجميع" سعى أردوغان، خلال حضوره في لفيف، إلى توسيع نطاق التعاون القائم في مسألة إسطنبول، لتصدير الحبوب، إلى محاولة تحقيق اختراق سياسي آخر يتمحور في طرحه ترتيب لقاء مباشر بين بوتين/ زيلينسكي لإحياء مسار المباحثات السياسية والبحث عن مخرج سياسي يُرضي كل الأطراف في الحرب الروسية الأوكرانية. ولكن حسابات أردوغان بدت في التوقيت الحالي أشبه بالمثالية، فما جرى في اتفاق الحبوب يختلف كلياً عن الحسابات الجيوسياسية العسكرية لطرفي النزاع. سياسياً، جاءت الترجمة بتصريح زيلينسكي عدم قبوله مفاوضات سياسية إلا بعد خروج القوات الروسية من كامل بلاده. قبل ذلك بأيام، ظهرت تصريحات روسية تطالب الأمم المتحدة بالضغط على كييف، ومنعها من تنفيذ استفزازات جديدة خاصة في منطقة القرم. آنذاك قالت روسيا إنّ ردّها سيكون حاسماً، خصوصاً بعد استهداف مطار ساكي العسكري في غرب شبه جزيرة القرم، 9 أغسطس/ آب الجاري، ومستودع دجانكو المليء بعتاد روسي كبير.
يرغب بوتين في السيطرة على مفاعلات الطاقة في أوكرانيا والاستفادة منها مستقبلاً
وكان الرئيس الروسي بوتين قد بدأ فعلياً منذ مدّة بلعب الورقة النووية، وفرضَ تهديداً نووياً من خلال محطة زاباروجيا النووية التي سيطر عليها منذ مارس/ آذار الماضي. وتفيد تقارير غربية أخيراً بأنّه عسكر المحطة، وجعلها منطقة تخزين وعتاد عسكري لقواته، ويعمل حالياً على رفع التهديد والاستفزاز، ليس فقط على كييف، بل أيضاً في دول جوار أوكرانيا كبولندا ودول البلطيق ورومانيا، بهدف إضعاف وحدتهم مع معسكر حلف الناتو، عبر فرض خطر وجودي على كلّ القارّة، فضلاً عن رغبة بوتين في السيطرة على مفاعلات الطاقة في أوكرانيا والاستفادة منها مستقبلاً. في الوقت نفسه، يستمر بوتين في حملته العسكرية في منطقة دونتيسك وما تبقى من جيوب قليلة لوصلها مع المناطق التي استولى عليها بين غرب البلاد وشرقها، لتهيئة الأرضية لسيناريو التقسيم.
لكن ما لم يكن في الحسبان الروسي يبدو قد حدث لإعادة خلط أوراقه وحساباته، فاستهداف القرم والإسراع في تدحرج كرة النار بدأ يتصاعد، والانفجارات التي وقعت عشية قمة لفيف ليست الأولى، فقبل شهر جرى استهداف مقرّ العمليات الروسية في سيفاستوبول عبر طائرات مسيّرة، قلّلت موسكو من شأنها، وادّعت عبر حاكم سيفاستوبول أنّها أزالت التهديد وتصدّت له عبر الدفاعات الجوية، وفي الوقت نفسه، هدّدت الغرب من استمرار تزويد أوكرانيا بأسلحة متطوّرة من صواريخ بعيدة المدى ومدافع "هاوتزر" التي تمتلك قدرة على تعطيل الملاحة الروسية في سيفاستوبول.
وذكرت مصادر أنّ تفجيرات القرم خُطّط لها بجهود استخبارية وغربية وبريطانية، بالتعاون مع استخبارات أوكرانيا وقواتها الخاصة المعروفة باسم "القوات الوطنية" (أو الثوار) لرفع الضغط والتأثير على روسيا في أهم منطقة حيوية لها. ومن شأن التهديد بتدمير جسر كريتش الواصل بين أراضيها والقرم أن يُفقد روسيا القدرة على استعمال أسطولها البحري في سيفاستوبول، وهو جسر بنته في عام 2018 عقب سيطرتها على القرم في 2014. وفي حال تدميره، ستخسر روسيا أهم مكسب لها، وستنحسر قدرتها في السيطرة على موانئ أوديسا، وستنخفض قدراتها العسكرية البحرية من استخدام صواريخ بعيدة المدى في استهداف العمق الأوكراني. وقد جاء دخول القرم على خط النار بعد ضوء أخضر غربي لأوكرانيا. وتهدف الانفجارات المتتالية في أماكن حساسة في الجزيرة إلى عرقلة خطوة الإمداد الروسية من وصولها إلى جنوب البلاد في خيرسون وزاباروجيا، بشكلٍ قد يُجبر موسكو على نقل مستودعاتها بعيداً عن الجبهة، الأمر الذي قد يسمح للقوات الأوكرانية بإعادة مسك زمام المبادرة وشنّ هجومات مضادّة لاستعادة خيرسون، وربما فكّ الحصار عن زاباروجيا، وتخفيف الفعالية الروسية لأسطولها البحري، والدفع بها مستقبلاً إلى إبعاد سفنها عن ميناء سيفاستوبول الواقع على بعد 250 كم من خطوط العمليات والجبهات المشتعلة جنوب أوكرانيا وشرقها.
القوات الأوكرانية متمسّكة بالقرم، وتعتبرها جزءاً أصيلاً من التراب الأوكراني
يمثل استهداف القرم تحوّلاً نوعياً في مسار الحرب المستمرة منذ ستة أشهر، ويدلل على أنّ القوات الأوكرانية متمسّكة بها، وتعتبرها جزءاً أصيلاً من التراب الأوكراني. ومن خلال النظر إلى الخسائر الروسية التي أظهرتها الأقمار الصناعية من طائرات وعتاد وبنى تحتية عسكرية، يتبين أن من شأنها أن تقود إلى تعطيل استراتيجية بوتين، أقلها "استراتيجية الموانئ البحرية الروسية وعقيدتها" التي أعلن بوتين عن توسيعها أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، والقاضية بوصل موانئ القرم وأزوف عبر ممرّ بحري إلى ميناء البوسفور واليونان، ومنها إلى موانئ المتوسط، حيث القاعدة البحرية في سورية، والتي تعد حيوية ونقطة ارتكاز في المياه الدافئة، تسعى من خلالها روسيا إلى تهديد جنوب الأناضول، والمعسكر الغربي (الناتو).
وفي وقت لم تنته فيه موسكو من تقييم كامل الأضرار الجيوسياسية في القرم وتداعياتها على مسار حملته العسكرية في دونباس، جاءت الضربة الثانية في اغتيال ابنة المفكر والفيلسوف ألكسندر دوغين، في موسكو العاصمة، وتردّد في بعض الصحف أن المستهدف كان الأب، فالسيارة التي تمّ تفجيرها تعود له، لكنه في آخر لحظة قرّر تغييرها، فكانت النتيجة تفجيرها بوجود ابنته داريا، التي تعدّ مع أبيها من منظّري الحرب الروسية في أوكرانيا ومشجّعيها، إلى جانب دعمهما إنهاء الرأسمالية الليبرالية الغربية. ومؤكّد أنّ هذه الضربة ستكون مؤلمة لبوتين، من حيث أولاً: أنّ دوغين يعد عقل وعرّاب سياساته التوسعيّة والمناهضة للغرب وقيمه، ومع فقدانه ابنته التي كان يعتمد عليها في إرساء معالم التبشير والثقافة الروسية في إقليم دونباس، يكون بذلك قد فقد ذراعاً كان يضرب بها. كما تعكس محاولة اغتياله داخل موسكو مدى الاختراق الأمني الغربي أو الأوكراني لروسيا، الأمر الذي سيدفع بوتين إلى إعادة تفكيره بكل حساباته المقبلة.
من المرجّح أن يُقدم بوتين، في المدى القريب، على خطواتٍ تصعيديةٍ قد تقود إلى تعطيل "اتفاق إسطنبول" لتصدير الحبوب
وإذا كان من المبكر التكهن برد بوتين، إلا أنّ تصعيده في ميناء أوديسا وإطلاقه صواريخ على أهداف عشوائية أعطيا انطباعاً على حالة الهلع والجنون الروسي. ومن المرجّح أن يُقدم، في المدى القريب، على خطواتٍ تصعيديةٍ قد تقود إلى تعطيل "اتفاق إسطنبول" لتصدير الحبوب، وعودة شد الحزام في أزمة الغذاء ضد أوكرانيا والغرب، إلى جانب رفع جرعة التصعيد ضد أوروبا في ملفات الطاقة والغاز، وتحريك رمال النزاعات المجمّدة ضد الغرب في دول البلقان ودول أوروبا الوسطى وشرق آسيا. وسياسياً تعزيز التحالفات وتوسيعها مع دول البريكس والصين وإيران وآسيا.
مع ذلك، ورغم كلّ أوراق القوة التي في حوزة بوتين، فإنّها قد لا تنفعه كثيراً حيال استمرار الغرب في تهديد وجوده البحري في القرم. عند هذا المطاف، غير مستبعد أنّ يستخدم أهم ورقة لديه، الورقة النووية، سواء من خلال تنفيذ أهداف تكتيكية نوعية قاتلة للمقاومة الأوكرانية جنوباً، أو عبر رفع خطر المهدّدات في محطة زاباروجيا النووية التي يتحصّن بها ويهدّد كامل القارّة الأوروبية في سيناريو قد يُحاكي قضية مفاعل تشرنوبيل. نعم، قد يلجأ بوتين إلى رفع الاستفزاز النووي، إذا ما شعر بأنّ القرم وميناء سيفاستوبول وأسطوله في البحر الأسود تحت خطر محدق، وربما خسارة ليس من السهل تعويضها، نظراً إلى ما يقوم به منذ عام 2000.