القضية الفلسطينية ومأزقُ التدْيين
مرّة أخرى، يجد الكيان الصهيوني نفسه في ورطةٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ وأخلاقية بعد الجريمة الشنعاء التي ارتكبها بقتل الإعلامية شيرين أبو عاقلة التي كانت تغطّي اقتحام قواته مدينة جنين في الضفة الغربية. وتتأكّد طبيعته الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية بعد الاعتداء على مشيعي جنازة الفقيدة، في تخطٍّ سافر لكل الأعراف والقيم الدينية والإنسانية. خسر معركة الصورة في مشهد الجنازة الذي تناقلته وسائل الإعلام الدولي ومنصّات التواصل الاجتماعي، وتكشّفت حقيقته كياناً عنصرياً وفاشياً حتى أمام مؤيديه في الدول الغربية الكبرى.
لا يعود هذا التغوّل العنصري فقط إلى الجذور الاستعمارية لهذا الكيان بقدر ما يعود، كذلك، لنجاح اليمين الديني الصهيوني في التغلغل داخل دوائر القرار الإسرائيلي، وبالتالي، إعطاء الصراع صبغةً دينيةً من خلال مخطّط التهويد الذي يستهدف السيطرة على القدس والمسجد الأقصى. ومن المفارقة أن هذا اليمين يشترك مع الحركات الإسلامية في المنطقة، على الرغم من تناقضه البنيوي معها، في تديين الصراع بتحويله من صراع قومي وسياسي، يتعلق بالأرض والهوية ومقاومة الاستعمار، إلى صراع ديني مفتوح بين المسلمين واليهود. ولعل هذا ما يفسّر حرص هذا اليمين على التشغيل الدائم لشعار ''معاداة السامية'' في مسعى إلى تضليل الرأي العام داخل إسرائيل وخارجها. بيد أن اغتيال شيرين أبو عاقلة، المسيحية العربية الفلسطينية، والاعتداء على جنازتها، يعيدان الصراع إلى جذوره، فلم تشفع لها مسيحيتُها ولا جنسيتها الأميركية ولا صفتها صحافية معروفة، لأن الهدف الاستراتيجي لدولة الاحتلال يبقى اقتلاع الهوية الفلسطينية بمختلف مكوناتها الروحية والثقافية، لا فرق في ذلك بين مسلمين ومسيحيين (وحتى يهود). وشيرين كانت شاهدةً على فصول غير قليلة في مسلسل الاقتلاع هذا إبّان العقدين الأخيرين.
إن حصر الصراع في فلسطين بين المسلمين واليهود يصبّ في مصلحة السردية الصهيونية التي تتغذّى على ''معاداة السامية'' وحق اليهود في ''أرض الميعاد''. واستمرارُ الحركات الإسلامية وقطاع من الرأي العام العربي في تديين الصراع يسيء إلى المسيحيين الفلسطينيين وما قدّموه من تضحياتٍ جسيمةٍ في سبيل نصرة القضية. وإذا كان حضورهم في الحراك السياسي الفلسطيني قد خفت، فذلك يعود إلى أسباب كثيرة، أهمها تراجع وزنهم الديموغرافي في المنطقة، وصعود الخطاب الإسلامي خلال العقود الأخيرة بعد انكفاء حركة فتح وتراجع تأثيرها.
صحيحٌ أن مخطّط تهويد القدس والمسجد الأقصى يمثل تحدّياً خطيراً للفلسطينيين، لكنه، في النهاية، يبقى حلقةً ضمن مخطط استيطاني واستعماري أشمل لابتلاع فلسطين والسيطرة على مقدراتها واقتلاع هويتها الثقافية العربية واستبدالها بهوية أخرى هجينة. ولذلك، فإن التوسّل، في مقاومة هذا المخطّط وغيره من مخطّطات الاستيطان والتهجير، بخطاب إسلاميِّ منفصل عن عمقه الوطني يعطي ذريعة لدولة الاحتلال لتبرير جرائمها الوحشية بحق الشعب الفلسطيني، على اعتبار أنها تواجه ''الإرهاب الإسلامي'' الذي يستهدف أمنها واستقرارها. وقد آن الأون كي تقوم التنظيمات الفلسطينية، التي تتغذى على هذا الخطاب، بمراجعات فكرية وسياسية جريئة في هذا الصدد. وحين يُحذر رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، من ''استباحة الكنس اليهودية في العالم في حال تكرَّر دخولُ عناصر الشرطة الإسرائيلية إلى المسجد الأقصى''، فإنه يفسحُ المجال لتبديد رصيد التعاطف الدولي المتنامي مع القضية الفلسطينية، خصوصاً في الغرب، ويقدم هدّية مجانية لدولة الاحتلال كي تستثمرها سياسياً وإعلامياً.
ينطوي تديين القضية الفلسطينية على مخاطر جمّة، أبرزها أنه يُدخلها في نفق سياسي، ويُجرّدها من حزمة موارد سياسية من شأنها أن تُحدث فارقاً في ميزان القوى إذا ما تجاوزت النخب الفلسطينية، بمختلف أطيافها الفكرية والسياسية، انقساماتها، ونجحت في التوافق على مشروع وطني جديد، يستوعب المتغيرات الإقليمية والدولية، ويعيد بناء أولوياته في ضوء الانقلاب النسبي الذي يشهد الرأي العام الدولي ضد إسرائيل، وهو ما بات يشكّل تحدّياً وجودياً بالنسبة للمشروع الصهيوني.