الكتابة بلغة أُخرى
كُتّابٌ كثر من أصولٍ عربيةٍ هَجروا أوطانهم لأسباب لا تخفى على أحد. لكنّ بعضهم لم يكتفِ بمغادرة المكان، بل خلع حتى عباءة لغته من أجل اللجوء إلى لغة أخرى لم يكن يَرطِنُ بها في بلاده، ما سمع أهلَه يتداولونها، وما أرضعته أمُّه حروفها وموسيقاها. لغة غريبة تعالق معها مراراً وتكراراً قبل أن يتمكّن من خلع بابها، مُرغِماً إياها على التعبير عن أفكار وذكريات حملها معه من بعيد. أجل، اللغات لا تستقبل الغرباء بسهولة، لا تفتح لهم ذراعيْها ولا تستسلم إلا بعد صراع. إنّها كالجياد البرّية، تراها من بعيد جامحةً لامعةً، تَسحرُكَ حرّيتُها، يأسرك جُموحُها، لكنّك ما أن تقترب محاولاً امتطاءها، حتى تنفضك عنها إلى التراب. فإمّا أن تجد الطريق لمحاباتها، فتقنع بك وتتبنّاك فارساً تُجيز له تدْجينَها والطواف بها في جغرافيا المعاني والمفردات، أو أن ...
كان لي صديق هَجَرَ بلاده صبيّاً إلى باريس. فرّ من العسف والقمع والمنع وهو في الرابعة عشرة من عمره، هام في الطرقات ونام في الحدائق العامة ورقد تحت الأشجار. لكنّه كان يتابع تعليمه في النهار، ويعيش تقريباً في المكتبات العامة التي تَحْفَلُ بها مدينة الأنوار. كسرت اللغة العربية خاطره، أوجعته، فقرّر أن يكتب بلغة الآخر الذي فتح له مدارسه وكتبه وسمح له أن يعبّر بحرية عمّا يشاء. العربية بقيت ماثلة في مكان ما من دماغه، بقيت متجذّرة في نخاعه الشوكي، لكنها ما تخلّصت يوماً، في نظره، من قسوة النبرة والمقدرة على الصفع والتوبيخ والمنع والتهديد.
ثمّة أمثلة كثيرة عن كُتّاب عالميين هَجروا لغاتهم الأمّ من دون أن يمنعهم ذلك من استئناف مشاريعهم الأدبية. هذا ما فعله ميلان كونديرا مثلاً، الذي انتقل إلى باريس في عام 1975، بعد تجريده من جنسيته التشيكوسلوفاكيّة. ورغم أنّه كان يمتلك معرفة عميقة بالثقافة الفرنسية بعد دراسته الأدب الفرنسي في براغ وترجمته العديد من الأعمال الفرنسية إلى التشيكية، ورغم أنّه أصبح مواطناً فرنسياً في عام 1981، إلا أنّه واصل الكتابة بلغته وصولاً إلى عام 1990 حين انتقل إلى الفرنسية مع روايته "الخلود"، فيما اعتبر شكلاً من أشكال التمرّد على الأيديولوجيا السائدة آنذاك في تشيكوسلوفاكيا.
من جانبه، هجر فلاديمير نابوكوف لغته الروسية بعد مقاومة وعناد، وهو المولود في العام 1899 في سان بطرسبورغ. في شتاء 1917-1918، انتقلت عائلته إلى شبه جزيرة القرم هرباً من الثورة البلشفية. وبعد أقلّ من عام، بدأ فلاديمير بدراسة الأدب الروسي في جامعة كامبريدج، وانتقل بعد تخرجه عام 1923 إلى العيش في برلين حتى عام 1937. بعدها، ذهب إلى باريس ثمّ غادرها إلى الولايات المتحدة بعد ثلاث سنوات. في عام 1960 عاد نابوكوف إلى أوروبا ليستقرّ بشكل دائم في سويسرا حتى وفاته. عن سنوات دراسته الجامعية يقول: "هي حقّاً قصّة محاولتي أن أصبح كاتباً روسيّاً"، في حين أنّ ارتحالاته والتأثيرات الأجنبية "أشعرته بالخوف من فقدان أو إفساد الشيء الوحيد الذي تم إنقاذه من روسيا؛ لغتها". ومع ذلك، قرر نابوكوف أن يكتب أدبه بالإنكليزية، هو الذي صرّح قائلاً: "الانتقال الكامل من النثر الروسي إلى النثر الإنكليزي كان مؤلماً للغاية، كان مثل تعلّم التعامل مع الأشياء مرّة جديدة بعد فقدان سبع أو ثماني أصابع في انفجار".
عدد الكتّاب العرب الذين يكتبون بلغات أُخرى في تزايد، بالقدر الذي تقسو فيه بلداننا وتنهار. ثمّة من يذمّ ويحكي عن اختيار العالمية كلغة أو عن خيار الكتابة بلغة المنتصر والقوي. هذا حكم قاسٍ ومتسرّعٍ ومتعالٍ، ذلك أن الكتابة حرب لا يخوضها المرء بتهوّر لإدراكه كم أنّ أثمانها باهظة. ثمّة كتّاب عرب اختاروا لغة الآخر لكي يكونوا أحراراً. دعونا نتمنى أن يأتي يوم يهجر فيه كُتّابٌ من العالم لُغاتِهم الأمّ لكي يكتبوا بلُغَتِنَا.