الكتابة والسرعة
كان في وسع كاتب الرواية، في ما مضى، أن يتوقّف عن السرد في أماكن معيّنة يحدّدها هو لنفسه، كما يتوقّف قطار في محطّات معينة، أو عربة تجرّها الخيول، فالوقت ليس ضاغطا، والكتابة، مثل وسائل السفر حينذاك، يمكن التحكّم بها، والروائي، كما السائق، يمكنه تقطيع الوقت واستمهاله إن شعر بتعب، أو بغموض فكرة، فنراه متمهّلا لوصف شخصية طرأت على المشهد، أو لتوصيف حدث، أو لإطلاق فكرة أو إعطاء رأي، أو تصويب أمر وتوضيحه. ولم تكن مواضع التمهّل أو الإبطاء، أو تلك الوقفات القصيرة لتزعج القارئ، بل إنه كان يعتبرها حتى من واجب الروائي/ السائق إذا صحّ التعبير، تسهيلا لمهمّته وإراحته من ضرورة التفكير الزائد أو طرح تساؤلاتٍ لا يجد الإجابات عنها دائما، فالقراءة رحلةٌ وجب أن تكون ممتعة قبل كل شيء، ومريحةً على وجه الخصوص، خالية من أية مطبّات أو مفارق خطرة تشتّت ذهن المسافر أو تشغل باله بما يفوق قدرته على التوقّع أو الاحتمال. والقراءة في تلك الأزمنة وجب عليها أيضا أن تملأ وقتا مقيما، ممتدّا، طويلا ومتواصلا كمياه نهر سائر بتساو وهدوء.
في روايته التي تحمل عنوان "البطء"، يقول الكاتب التشيكي ميلان كونديرا: "درجة السرعة متصلة نسبيا بدرجة النسيان. من هذه المعادلة، يمكن استخلاص نتائج مختلفة، على سبيل المثال: يستسلم عصرنا إلى شيطان السرعة. ولهذا السبب، ينسى نفسه بسهولة. ومع ذلك، أفضّل عكس هذا التأكيد والقول: عصرنا مهووس بالرغبة في النسيان، ومن أجل إشباع هذه الرغبة، تراه مستسلما لشيطان السرعة. العصر يسرّع وتيرته لأنه يريدنا أن نفهم أنه ما عاد يرغب أن نتذكره، أنه ضجر من نفسه؛ مشمئز من ذاته، ويريد أن يطفئ الشعلة الصغيرة المرتجفة للذاكرة".
في عربة الخيل وفي القطارات القديمة، المسافات طويلة والحركة بطيئة، كذلك هي الكتابة، قادرة على إنتاج روايات أنهار من مئات الصفحات. أحيانا أفكّر أن الكتابة مرتبطة بالحركة، بتحوّلاتها، وأنها تتتبدّل بتبدّل سرعتها. الرواية لم تولد عندنا، نحن العرب عرفنا أنواعا آخر من السرد. قصص تتوالد من أخرى، أو سير بطولية لا تنتهي. الرواية بشكلها المعروف ولدت في الغرب، وإن كانت قد رافقت مغامرات الفرسان والفروسية، فقد جاء ثيرفانتس ليسخر منها، واضعا أول رواية غربية حديثة. الرواية ولدت من الاستثناء، فارسٌ ليس بفارس يروي مغامراته التي ليست بمغامرات.
لتطوّر الكتابة صلة بتطوّر الحركة. وسائل التنقل السريعة قضت على الرواية المتمهّلة البطيئة، والكاتب اضطرّ مرغما إلى التخلي عن وقفاته القديمة، وعن حرّيته في التباطؤ والاستراحة أو الشطط من حين إلى حين، لكي يركّز كامل انتباهه على الطريق حيث يسير مع آخرين.
الأحصنة، ثم المراكب، ثم القطارات، ثم السيارات وأخيرا الطائرات. لا بد وأن خيال الروائي انفلت من عقاله، أن الجاذبية اختفت، وأنه صار بإمكانه التحليق متى شاء وكيفما اتفق، صعودا أو نزولا، مستقبلا أو ماضيا. لا قوانين تعيق حركته بعد الآن. يمكنه أن يجرّب كل الأساليب والأنواع الأدبية، أن يطير حتى إذا شاء، أن يغوص في أعماق البحر، يبلغ كواكب أو مجرّات قصية، يخترع كائناتٍ لا وجود لها، يسافر إلى أزمنة يختلقها من شبه خلية. على الروائي أن يكون يقظا، خفيفا، فطنا، أن يأتي بجديد، أن يخترع السرعة الخاصة به، ويعتمد البطء حيث ينبغي، بالمعايير اللازمة، لا أكثر ولا أقلّ، فدورة الأرض تتسارع، والأوراق تقلّ، والأفكار تأتي ثمارها في موسمها، ولكن في غير موسمها أيضاً...