الكرامة في كأس شوكولامو
أخبرني صديقٌ شاعرٌ وصحافي لبناني، في عام 2005، أنه كان يدرّس مادة الشعر لطلاب السنة الثالثة في الجامعة اليسوعية في بيروت، وكان الدرس المخصّص لمحاضرة ما عن نزار قباني، قال إنه قدّم مواد عن حياة نزار وشعره، ثم وضع في آلة العرض شرائح تحوي صورا لبيت نزار قباني القديم في دمشق، وصورا من جنازته، وأراد أن يكمل المحاضرة حين سألته طالبة لديه: هل الجنازة في دمشق وهل دفن نزار قباني فيها؟ فأجابها: نعم، دُفن في مقبرة باب الصغير في وسط دمشق... فسألت مستغربة: لكن تظهر في الصور بنايات عالية ومرتبة وشجر أخضر، ودمشق لا توجد فيها أبنية حديثة ولا فيها شجر؟ أسقط في يد صديقي يومها، وأكاد أتخيّل وجهه الغاضب واشمئزازه مما يسمع، وهو عاشق دمشق التي يعرفها حجرا حجرا.
لا أعرف خلفية الطالبة. ولكن يمكنني أن أخمّن في أية بيئة كانت تعيش بالقياس إلى الجامعة التي كانت تدرُس فيها. وبالقياس إلى الزمن الذي سألت فيه ذلك السؤال الغريب، حيث كان ذلك قبل اغتيال رفيق الحريري، وقبل خروج القوات السورية من لبنان، أو ربما الأصح القول قبل انتهاء الاحتلال السوري للبنان. يمكننا جميعنا أن نقدّر كيف كانت نظرة اللبنانيين إلى الجيش السوري الذي يحتلّ كل مفصل من مفاصل لبنان؛ ليس فقط لأن الجيوش المحتلّة هي، بالضرورة، همجية تخرّب وتدمّر وتسرق وتعتدي من دون رادع، بل أيضا لأن الزمن أثبت أن مؤسّسة الجيش السوري هي الأسوأ على الإطلاق والأكثر دموية وعنفا، وهذا لا يتعلّق بالأفراد والمجنّدين، بل ببنية المؤسّسة نفسها وبأصحاب الرتب العسكرية بتراتبيّتها المعروفة. يمكن من خلال ذلك فهم كيف يمكن لشابّة لبنانية ترى همجيّة المحتل السوري في بلدها وتعيش في بيئة تعترض وتشوه كل ما يتعلق بصورة المحتلّ أن تتخيّل دمشق أو غيرها من المدن السورية؛ خصوصا مع الاستعلاء (الفرانكوفوني) الذي لطالما كان الصفة الملازمة للبنان بالنسبة لنا نحن السوريين، والذي كنّا نراه محقّا بوجه ما. ذلك أن ما كان يوجد في لبنان هو ما نحلم به في سورية، الحرّيات السياسية والحرّيات الفردية والصحافة الحرّة والأحزاب المتعدّدة والانفتاح الكامل والفن والجمال، كل ما كان مفقودا في سورية بسبب نظام "البعث" والأسد كان متوفرا بالنسبة لنا في لبنان.
ولكن، يا للعجب، في الوقت الذي كنّا نحن فيه منبهرين بهذا اللبنان الاستثنائي، كان مسؤولوه وغالبية صحافييه وكبار مثقّفيه وكتّابه وفنانيه (باستثناءات معروفة) يتهافتون تهافتا مقرفا للتقرّب من النظام السوري ومؤسّسته الأمنية التي كانت تمنع المثقفين السوريين من السفر، وتزجّ معارضيها في السجون، وتمنع شاعرا من النشر في سورية لمجرّد قصيدة اعتبرتها السلطات المختصة إباحية، وتمنع كتبا لسوريين وعرب من التداول، ويتعرّض من يكتب في بعض الصحف اللبنانية من السوريين في الداخل للمساءلة الأمنية؛ وربما يفيد هنا أيضا تذكّر القصائد والمقالات في مدح الأسد الأب في حياته ورثائه بعد موته، وتلك التي كتبت عند رحيل الوريث الأول باسل الأسد والتوافد إلى القرداحة بوفودٍ لا تحصى لتقديم العزاء بالفقيد "الكبير".
انقسم المجتمع اللبناني مثل السوري بعد الثورة، صار لنا نحن، سوريي التغيير، لبناننا الجميل، وصار للنظام لبنانه المعتاد: الفاسد والمسترزق والمنافق والطائفي والاستعلائي. وكشفت الثورة السورية حقيقة لبنان واللبنانيين، كان التعامل مع اللاجئين السوريين الذين هربوا إلى لبنان المعيار الأول في التفريق بين لبناننا ولبنانهم؛ لبنان الذي يريد أن يكون بلدا حرّا مستقلا يؤمن بحقوق الانسان وحرّيته أينما كان ومهما كانت هويته، ولبنان التابع المتخلّف والعنصري والمسلّح والطائفي والمتشاوف والانتهازي الذي لا يستطيع أن يعيش خارج الفساد وخارج التبعية.
لا عجب إذا أن تظهر من قلب لبنانهم أصوات تطالب بتسليم السوريين اللاجئين للنظام السوري، ولا عجب أن تظهر فيه أصوات استعلائية تستند إلى تاريخ من الصحافة الصفراء والفضائح لتسخر من بساطة اللاجئين السوريين الذين يعملون كي يحافظوا على كرامتهم، بدل أن يضعوا كراماتهم في كؤوسٍ زجاجيةٍ رخيصةٍ يتناولها بتلذّذ صاحب المحفظة الأكثر امتلاء.