اللحمُ السوريّ على مائدة "الأسد إلى الأبد"
بحيادٍ مجلّلٍ بالصمت والترقّب، تابع السوريون الكيفية التي شكّل بها "الأسد الأب" جمهورية الصمت والرعب والقهر، مستنداً إلى رواية جماعية لمظلومياتٍ مُضخّمة ومتوارثة، لا تفتأ تذكّر الأجيال المتعاقبة بها، كي تحفّز لديهم الشعور الدائم بالخطر، فيما إذا فكّروا أن يتخلوا عن عصبيتهم الطائفية في مواجهة "الآخر". انطلاقاً من هذا الاستعداد النفسي والأخلاقي لتسويغ كلّ الخروقات والجرائم التي تُرتكب باسم العائلة الحاكمة، ومن أجل حمايتها، يغدو أي تعارضٍ مع المصلحة الوطنية مشروعاً ومباحاً، بل ومباركاً أيضاً.
وعلى مدى عقود ثلاثة قضاها حافظ الأسد رئيساً على سورية، يقول صالح القلاب، وزير الثقافة ووزير الإعلام الأردني الأسبق في وصفه: "إنه كان ناعم الملمس وشديد التهذيب، وافر الأناقة وطويل البال، وعندما يريد التخلّص من خصومه فإنه يأكلهم بالشوكة والسكين". في المقابل، فإنّ سياسة "اللعب على الحبال السياسية" التي احترفها "الأسد الابن"، الرجل الضعيف، (أو كما يُنظر إليه)، تعطيه القدرة على التمسّك بالعرش، بالطريقة نفسها التي يمكن للحاكم القوي الإمساك بكل مفاصل القوة، فقد تعلّم بشار الأسد فنّ أكل اللحم السوري على طريقة أبيه، عبر تحويل مظاهر العجز ومطبّات الأزمات الملتهبة إلى أرصدة قوية للنجاة.
وعليه، وخلال الحرب السورية الطاحنة، بدت رؤية بشار الأسد إلى الشعب السوري هي رؤية أبيه المتطرّفة ذاتها. وبابتسامة باردة مترفعة، ترافقه أنّى اتجه، يتناول ولائمه البشرية بصمتٍ مريب، لا يوفر وسيلة لحماية كرسيه. وفي الحقيقة، ما زالت الوسائل نفسها حين أطلقت قوات "الأسد الأب" النار على أول مظاهراتٍ اندلعت بعد استيلائه على الحكم خلال أحداث الاحتجاج على دستور 1973، والذي فصله على مقاسه ليتوَّج بفضله "ربّ السوريين الأعلى"، ما زالت نفسها حين ارتكبت مجزرة حي المشارقة في حلب، صبيحة عيد الفطر عام 1980. وفي العام نفسه، حين ارتكبت مجزرة جسر الشغور، وسُحل شبان المدينة في الشوارع، بعد ما رُبطت أجسادهم بالسيارات العسكرية عشية عيد الأضحى، ما زالت نفسها حين ارتكبت مجزرة حماه الكبرى عام 1982، وهُدم ثلثا المدينة، ثم أجبر الأهالي أن ينظفوا الشوارع من دماء أبنائهم، وأن يعيشوا سنوات الانتظار المرّ بحثاً عن آلافٍ آخرين، اقتيدوا إلى المعتقلات، وظلّ مصيرهم مجهولاً...
من المعيب أن تتحوّل هذه الكارثة المأساوية إلى فرصة ذهبية لإنقاذ هذا النظام المنتهي أخلاقياً وسياسياً ووطنياً
البدايات خدّاعة.. فمن المجحف الجزم مسبقاً بأنّ "الأسد الابن" لا يملك المؤهلات القيادية، أي بعبارة أخرى ليست لديه شخصية والده الصلبة، في وقتٍ أثبت فيه أنه أكثر شراسة وسادية وخبثاً منه. ففي عام 2013، على سبيل المثال، اقترب الأسد من خط النهاية، حيث بدا أنّ كلّ التكهنات قد بدأت بالتحقّق، بعد خسارته مناطق شاسعة من سورية، والكثير من الشرعية الدولية. وكانت الولايات المتحدة تخطو نحو دعم الثورة بشيءٍ أكثر من الكلام، ثم جاء هجوم غاز السارين واجتياز خط أوباما الأحمر، عندها برزت مواهب الأسد الخفية، خصوصاً نفسه الطويل في فنّ المراوغة وكسب الوقت، بدلالة أنه، وعندما طلب منه العالم التخلّي عن أسلحته الكيميائية، نفّذ ما طُلب منه، وعندما أمره بوقف الحرب الأهلية بدا مستعدّاً للمشاركة في مؤتمر جنيف، وفي نيته أن تبقى الأمور معلّقة، وللأسف حصل ما أراده تماماً.
ومثلما قيل في مقالة تحدثت عن الجاسوس الإسرائيلي إيلياهو كوهين الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، النظام السوري هو "أسد يهوذا الرابض على بلاد الشام" لحماية الدولة العبرية وتنفيذ وظائف محدّدة، فالنظام ما انفكّ يلعب بحرفية على وتر المقاومة والممانعة، هرباً من الاستحقاقات الداخلية، ليثبت، يوماً بعد آخر، زئبقيته في التعامل مع الوقائع مهما بلغ تأزمها، وعليه، ما إن حلّ بالسوريين ما حلّ بهم جرّاء الزلزال الذي ضرب البلاد أخيراً، حتى تفتّق ذهن الأسد، كعادته، عن استغلال المأساة ليجيّرها لصالحه. فمن قتل مليون سوري، ودمّر بلاداً بأكملها، هل يأبه لموت آلاف عدة من السوريين، وتدمير أبنية لا تعادل 1% مما دمّره؟
واليوم يأتي الزلزال المدمّر في وقتٍ لا تزال فيه المعطيات الكارثية قائمة بالنسبة للأسد، مع انهيار الاقتصاد وزيادة العقوبات الأممية، ومضاعفة إيران سعر إمداداتها النفطية، والمطالبة بالدفع المسبق. لسوء الحظ، تأتي الكارثة لتشكّل قشّة النجاة الأخيرة، المؤكد أنها ستنتشل الأسد من المستنقع الذي يتخبّط فيه، لذا يبدو الأخير مستميتاً للاستفادة من المساعدات الدولية الموجهة إلى السوريين، بينما يضع نفسه حلّاً للمشكلات الشرّيرة التي أوجدها، من خلال تقديم تنازلٍ بسيط بالسماح بدخول المساعدات إلى شمال غرب سورية، حيث مناطق المعارضة، وعبر أكثر من معبرٍ حدودي، ثلاثة أشهر.
حجم الكوارث التي ارتكبها النظام السوري أكبر بكثير من تداعيات الزلزال أخيراً
لدى بشّار الأسد المنبوذ منذ أكثر من عقد، الآن سببٌ وجيهٌ للشعور بالثقة مرّة أخرى، فقد تلقى اتصالات تعزية من حلفائه، كما من الرؤساء الذين نبذوه سابقاً، كالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. يعزّز ثقته هبوط أكثر من 60 طائرة تحمل مساعدات دولية في مناطق النظام، ليأتي وزير الخارجية، فيصل المقداد، ويعزف على سيمفونية رفع العقوبات التي، وحسب قوله، تزيد من صعوبة الكارثة. الهلال الأحمر السوري، بدوره، دعا إلى رفع الحصار، وكذلك مستشارة الأسد، بثينة شعبان، وأيضاً فنانون موالون، وكأنها جوقة معدّة سلفاً، أعطى المايسترو الإشارة لتبدأ عزفها، على وقع زيارة الأسد أطلال الزلزال ضاحكاً سعيداً، وهو يدرك، ضمنياً، أنّ الزلزال هبة من السماء ستفكّ الحصار عنه، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس الأميركي، بايدن، إعفاء أي معاملات متعلقة بجهود إغاثة ضحايا الزّلزال من العقوبات، 180 يوماً، وهذا بالضبط ما كان يبحث عنه الأسد ليفكّ عزلته، ويشجع الدول العربية للتطبيع معه. وبدأت النتائج تتكشف بالفعل بعد الزيارة التي قام بها الأخير إلى عُمان، والتقى خلالها السلطان هيثم بن طارق، في أوّل رحلة خارجية بعد الزلزال الكارثي، لبحث القضايا العربية والإقليمية، وتدعيم العلاقات بين البلدين.
في هذا الوقت، ألقت صحيفة فاينانشال تايمز الضوء على محاولات الأسد المفضوحة لإعادة تأهيل نفسه على مسرح السياسة الدولية من بوابة الزلزال والمساعدات، محذّرة من محاولته استغلال الكارثة لفرض نفسه أمراً واقعاً. وذكرت، في تقريرٍ أشار إلى سلوكيات الأسد الوضيعة: "إنه ديكتاتور من نوعٍ خاص، يستخدم زلزالاً مميتاً لإعادة تأهيل نفسه مع المجتمع الدولي في أثناء التقاط الصور في منطقة منكوبة مع زوجته"، وختمت مؤكّدة أنه لا ينبغي نسيان السوريين أو تقديمهم ذبيحة في تنازلاتٍ متسرّعة، لأنّ المنطقة برمّتها قد أنهكها عناد نظام الأسد.
فعلياً، حجم الكوارث التي ارتكبها النظام السوري أكبر بكثير من تداعيات الزلزال أخيراً. بالتالي، من المعيب أن تتحوّل هذه الكارثة المأساوية إلى فرصة ذهبية لإنقاذ هذا النظام المنتهي أخلاقياً وسياسياً ووطنياً. نظام قتل وشرّد الملايين من الشعب السوري من أجل الحفاظ على سلطته، واليوم يحاول استغلال كلّ ما لديه من نفوذ وعلاقات خارجية ودولية، واستثمارها على حساب دماء الضحايا، في وقتٍ يتفق فيه السوريون، وبكل أطيافهم ومكوناتهم، أنهم عاشوا نصفَ قرن في ظلّ نظامٍ همجي لا يصلح لحكم زريبة حيوانات، وليس لحكم بشرٍ توارثوا حضارة سبعة آلاف سنة. بشر تُؤكل أحلامهم كما لحومهم بالشوكة والسكين على طاولة "الأسد إلى الأبد".