اللغة السياسية "المضلِّلة" وفنّ حصد الرقاب السورية
"بكوا في أول الأمر ثم ألفوا وتعوّدوا، إنّ الإنسان يعتاد كلّ شيء، يا له من حقير". كتبها دوستويفسكي يوماً. كان يدرك يقيناً أنّه لا يُوثَق بالإنسان، لأنّ في جبلته الاستعداد للطأطأة مع كلّ طغيان، ما لم توجد ضوابط ومراقبة. وكان يدرك أنّ الأنظمة الدكتاتورية توظف هذه الحقيقة بتدجين الإنسان الحرّ بزرع الأوهام، وتلقينه إياها، ليُؤثر الأمن والاستقرار على حريته. ويبدو أنّ نبوءة الروائي الروسي قد وجدت طريقها لتتحقّق في سورية، بوجود دكتاتور يحتقر الشعب بقسميه الواعي وغير الواعي، المتكلم والصامت، فيعامل الأولين بالمعتقلات، ويُخضع الآخرين لعمليات غسيل مخّ عنيفة، تحول بينهم وبين الوعي بمصالحهم. على هذا، نجح النظام السوري في صياغة عالم متخيل، لا يوجد إلا داخل لغته القمعية وشعاراته البائسة، وتقديمه بوصفه العالم المثالي الذي يعيش فيه السوريون. عالم قائم على استراتيجيةٍ فظيعة: "أن تسيطر على شعبٍ بأكمله يعني أن تزجّه في وطنٍ بلا أمل". ويبدو الارتباط الوثيق بين اللغة والشعارات وبين السلطة الحاكمة منطقياً جداً في سورية، للدفاع عن سياساتٍ لا يمكن تبريرها في الواقع، فاللغة الفاسدة "المضلِّلة" وحدها ما جعلت الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق المطلقة، بينما تُحارَب اللغة الصالحة الكاشفة، بما يؤدّي إلى اختفائها وتواريها. هذه الإشكالية بين اللغتين تأتي من طبيعة الظروف المأزومة التي يعيشها السوريون اليوم، لأنّها تجيبنا على سؤالٍ جوهري لدى تعرّضنا لتقييم خمسة عقود من الاستبداد: ماذا حصدنا؟ سؤال فيه من التعرية والكشف لجبال من الهزائم ما لا يطيقه أيّ شخص متوازن. هزائم تطرح أسئلة أخرى من قبيل: هل حرّرنا الأرض؟ هل ازدهر الاقتصاد بما يضمن حقاً قدرتنا على الوقوف من دون خلخلةٍ اقتصادية أو ارتجاجاتٍ اجتماعية عميقة؟ هل تعمّق التوجه القومي؟ هل وصلنا إلى علاقةٍ سويةٍ بين السلطة والمواطن؟ هل الأخلاق العامة تسير إلى النضج أم إلى تدهور متزايد؟
أصبح حديث الشارع عن انقطاع الكهرباء ونقص الوقود وارتفاع الأسعار بمثابة مؤامراتٍ تُسهم في "إضعاف الشعور القومي"
وبالتساوق مع ما سبق، ثمّة رؤى مختلفة حول "اللغة السياسية" وآليات ممارستها في المجتمع السوري. والاعتقاد السائد أنّ هذه الرؤى، على تبايناتها، كانت أقربَ إلى الرؤية الذاتية أو المصلحية منها إلى الرؤية الموضوعية، لقدرتها على التحشيد العام، ثم توجيهه إلى إعلان الولاء المطلق للنظام الحاكم، وتلقّف خطابه الأيديولوجي بما يضمن بقاءه، وذلك بالاعتماد على نظرية التماهي الكامل بين الزعيم والشعب والوطن، فالشخص الذي يتطاول على الزعيم يكون قد أساء للوطن وللشعب كله. خذ مثالاً آخر من المستجدّات السورية: "تعديل مشروع قانون مكافحة الجريمة المعلوماتية الصادر عام 2012"، والذي تضمن لغة متطرّفة تشدّد العقوبات على كلّ من ينشر أخباراً كاذبة على الشبكة المعلوماتية، يصل بعضها إلى سبع سنوات سجناً، وغرامات مالية، منها ما وصل حتّى عشرة ملايين ليرة سورية. في وقتٍ أهابت فيه وزارة الداخلية بروّاد مواقع التواصل توخّي الدقة والحذر والابتعاد عن التواصل مع الصفحات المشبوهة، والتي لها ارتباطاتٌ خارجية، أو التفاعل معها أو تزويدها بمعلومات، حتى لا يتعرّضوا للمساءلة القانونية. وفي الحقيقة، تمارس الوزارة سياسة "دسّ السمّ في العسل" لمجرّد طرحها مصطلحات من قبيل: "النيْل من هيبة الدولة .. المساس بالوحدة الوطنية .. إثارة الرأي العام .. إلخ"، بحكم كونها عناوين فضفاضة للغةٍ غريبةٍ عن الساحة السياسية السورية التي كانت في خمسينيات القرن الماضي أشبه بوردةٍ وسط صحراء العرب القاحلة. لغة تؤكّد العمل المبطن في جزءٍ لا يستهان به من زوايا التعديل الجديد، على إغلاق آخر متنفسٍ للمواطن السوري، بعد حرمانه من أدنى متطلبات الحياة الكريمة. والأمر لم يعد يتوقف على تجاوز الخطوط الحمراء التي تمسّ مكانة الرئيس والجيش والمخابرات، بل أصبح حديث الشارع عن انقطاع الكهرباء ونقص الوقود وارتفاع الأسعار وثبات أجور الموظفين، بمثابة مؤامراتٍ فاجرةٍ تُسهم في "إضعاف الشعور القومي" أو "وهن نفسية الأمة". وهذا يعني صراحةً أنّ صياغة المصطلح بهذا الشكل الزئبقي، مع عقوبته المبالغ فيها، هو لإدخال أيّ سوريّ تحت عباءته، ومهما علا شأنه، ما يوازي عقوبة الخيانة تماماً!
أحاديث الفساد والحاجة إلى الإصلاح هي القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع عموم السوريين
وفي سورية، التي حلّت في قاع الترتيب العالمي لمؤشّر الحرية لعام 2021، يغيب عن الدستور والقوانين الوضوح الكبير والدقة الشديدة ما أمكن، ليفسح المجال للتلاعب اللفظي والاستغلال غير الصحيح، بينما لا تدّخر الجهاتُ المكلفة بقضايا الجريمة الإلكترونية جهداً في إثبات وجودها، فإبداعاتها القانونية تغزو صفحات التواصل الاجتماعي كلّ عدّة أشهر، وليس جديدها موضوع الرموز التعبيرية (الإيموجي) التي قد تتحوّل إلى جريمة تامة الأركان، ويمكن تأويلها، حسب المزاج السياسي، لتصل حدّ التهديد بالقتل إذا أرسل أحدهم رمز "مسدس، قنبلة"، أو تحرّشاً جنسياً إذا أرسل شاب رمز "قبلة" إلى فتاة ما. وعلى الرغم من أنّ أحاديث الفساد والحاجة إلى الإصلاح هي القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع عموم السوريين، وعلى الرغم من أنّ تداولها يبدو في ظاهره من قبيل النادرة أو النكتة، لكنّه، في حقيقة الأمر، نوع من السخط الشديد من تردّي الأوضاع مرّة، ومليون مرّة من تهمة الجريمة الإلكترونية، لتصبح معاناة الصمت أقسى بكثير من أي معاناةٍ أخرى، تنتهي بالاستسلام إلى الجملة الشهيرة: "خلينا ساكتين، أحسن ما نوهن نفسية الأمة" والإشارة هنا إلى الخوف من التبعات القضائية لجريمة "الصراخ من شدّة الألم".
لا بدّ من العودة إلى الدولة الأمنية وإخضاع الشعب للغة "القيادة الحكيمة" المواربة
في وقت مضى، هاجم بشار الأسد مواقع التواصل، بقوله إنّها "أسهمت بشكل كبير في تردّي الأوضاع داخل البلاد". لذا ليس غريباً أن يصدُر هذا النوع من القوانين، بينما خطرها لا يوفر حتّى الموالين المتطرّفين الذين ارتفع سقف نقدهم اليوم ليطاول شخص الرئيس نفسه. وفي الحقيقة، آن الأوان ليظهر على السطح حجم الكارثة التي تسبّب بها الحاكم الفاسد، وبات من الطبيعي أن تكون هناك ردّات فعلٍ عنيفةٍ ضد نظام جاهز دائماً لابتكار طرق جديدة في فنّ حصد الرقاب إن ارتفع الرأس، ولو قليلاً، عن مستوى القطيع. قصارى القول، يردّ الأسد على "صراخ الجياع" بقوله: "ها نحن ذا بالمرصاد، لم نتغير ولن..."، فابن أبيه أخذ الاحتياط، ومنذ عام 2012 عبر المرسوم 17 بديلاً عن إلغاء قانون الطوارئ، إلى جانب دوره الخبيث في خصخصة الأمن والقمع، لتقوم مؤسسات غير حكومية، كالمؤسسات الدينية أو المنظمات الشعبية التي ترعاها الدولة لتعويم المجتمع المدني، بدورٍ قمعي وتعسّفي واضح. بمعنى، مرّت الثورة بكلّ حمولاتها وبقي الأسد. وعليه، لا بدّ من العودة إلى الدولة الأمنية وإخضاع الشعب للغة "القيادة الحكيمة" المواربة. فمن المخلّ والمشوّه لواقع استعراض الإنجازات وإبراز روعة اللوحة الفسيفسائية للشعب "الصامد" أن ينفث المتآمرون سموم أخبار ملفقة، أو يأتوا على شكاياتٍ تافهة، من قبيل تراجع مستوى المعيشة للحدّ الذي دفعهم إلى حاويات القمامة لتلقّف ما يسدّون به رمقهم، وما شاكل من أمورٍ ثانوية إذا ما قيست بانتصارات القائد التاريخية وهزيمته المؤامرة الكونية، بينما الشعب السوري موجودٌ أصلاً للتسليم بقداسة "القائد الخالد" الذي يحكم حتّى من قبره، والاعتياد على لغته الفاسدة، الثابتة والقطعية، والتي من شأنها أن تسهم في إطالة عمر المأساة السورية تحت أقنعةٍ مختلفة، لتستمر المناورة واللهو الرخيص مع التاريخ.