اللغة والمجتمعات الفاشلة
في خمسينيات القرن الماضي، بدأ الشاعر اللبناني، سعيد عقل، سلسلة محاضرات تحدّث فيها عن ضرورة اعتماد اللبنانيين ما سمّاها وقتها "اللغة اللبنانية"، وهي اللهجة اللبنانية نفسها مكتوبة بأحرف لاتينية تقليدية، مضافا إليها أحرفا جديدة اخترعها هو لتتناسب مع بعض الأحرف الصوتية اللبنانية. اختفت تلك الدعوة التي لم يكترث بها أحد وقتها، اختفت طويلا، وعاد صاحبها إلى كتابة أجمل القصائد بالفصحى. ثم عاد في عام 1967 إلى إحياء فكرته القديمة، ويؤسّس دار نشر (دار أجمل الكتب) مختصة بنشر الكتب بـ"اللغة اللبنانية"، وفشل المشروع، ليعيد في ثمانينيات القرن الماضي طرحه، مترافقا هذه المرّة مع خطاب عنصري ضد الفلسطينيين ومهللا لإسرائيل، ناسفا بذلك انحيازه الأيديولوجي نحو فكر أنطون سعادة المعادي لليهود، وليس للصهيونية فقط، في تمثل تام لمنهج النازية.
بطبيعة الحال، لم تلق دعوات سعيد عقل تلك أي قبول أو انتشار في المجتمع اللبناني الذي قدّم للغة العربية وثقافتها أسماء عظيمة، أسهمت في بناء النهضة العربية. ولكن قد يكون من المفيد الملاحظة أن دعواته ومحاولاته استبدال العربية بلغة لبنانية كانتا مترافقتين مع انكسارات سياسية كبيرة للعرب، النكبة 1948 ثم الهزيمة 1967 ثم الحدث الأهم له بصفته لبنانيا، الحرب الأهلية اللبنانية، وما خلفته من نتائج كارثية على كل المستويات، كان أخطرها اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982، والذي يبدو أنه خلخل الثوابت لدى عقل، وأظهر فيه عنصرية معاكسة متعاطفة مع العدو التاريخي لأيديولوجيته، جعلته يستعيد دعواته إلى استبدال اللغة بوصفها حامل الوعي الأول للكائن البشري.
تُعرّف اللغة بأنها "نسق من الإشارات والرموز تشكّل أداة من أدوات المعرفة، وواحدة من أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، وبدون اللغة يتعذّر نشاط الناس المعرفي، وهي ترتبط بالتفكير ارتباطا وثيقا، فأفكار الناس تصاغ دوما في قالب لغوي حتى في حال تفكيره الباطني". واللغة عموما معرّضة للتطور ولاستقبالها مفردات جديدة تتناسب مع حراك الزمن، ومع التطوّر التقني، أو نتيجة التداخل والتمازج اللغوي الذي تتركه الكولونيالية، أو هيمنة لغة ما بسبب نشاطها التكنولوجي. كما تتعرض اللغة لنبذ مفردات أو مصطلحات قديمة فيها تحولت إلى مفردات قاموسية أو معجمية تراثية، بسبب عدم استخدامها في الأزمان المتتالية. هذه الحركة المتواصلة في اللغة من الظواهر الصحية التي تبقي اللغات حية وطازجة وصالحة لكل زمان؛ لكن هذا يحدُث حينما تكون المجتمعات منجزةً ومستقرّة، ولا تتعرّض لصدمات تخلخل بنيتها وكينونتها الثقافية والفكرية، من حيث إن الثقافة سلوك اجتماعي يميز مجتمعا عن آخر. في هذه المجتمعات، لن تنظر إلى اللغة بكل ما يطرأ عليها من تغيرات بوصفها أزمةً ما، بل بوصف ما يحدُث لها بديهي لا يحتاج إلى نقاش أصلا.
تحدُث المشكلة مع اللغة في المجتمعات الفاشلة، في أزماتها الكبيرة، حين تفكيك بنية مجتمع ما نتيجة عوامل سياسية أو اقتصادية أو كولونيالية، عندما يفقد أبناء هذه المجتمعات مفهوم الهوية الواحدة، عندما تصبح الهويات الهامشية هي المتن. ومعروفٌ أن المجتمعات الفاشلة هي الأكثر عنصرية، تظهر هذه العنصرية بداية مع اللغة، حيث ينقسم أبناء هذه المجتمعات في العلاقة مع اللغة بالتوازي مع الانقسام الهوياتي، كأن يعتبر أصحاب الأيديولوجيا القومية أو الدينية أن المساس باللغة هو مساس بالثوابت، وهو ما يشكل خطرا كبيرا، بينما يرى أنصار الشوفينية الوطنية اللغة هذه تراثية تعيق تطور المجتمع، وبالتالي يجب استبدالها باللهجة العامية الدارجة، واعتبار هذه اللغة الوطنية الرسمية، وهو نقاش يثار أخيرا في أكثر من دولة عربية، من دون أن ينتبه مثيرو الأمر إلى المشكلة الأساسية خلف ذلك النقاش، المشكلة التي يديرون رؤوسهم عنها: الهزائم المجتمعية الكبيرة نتيجة عقود تتجدّد من الطغيان والاستبداد والفشل في التنمية والتعليم، والتخلف عن مواكبة المتغيرات العالمية الكبرى، وعن التقدّم المذهل في العلوم والتكنولوجيا، والمزيد من الانكماش والتقوقع أمام فيض الحريات الذي يجتاح العالم المتقدم، وتصل إلينا آثاره عبر وسائل الاتصالات الحديثة التي نستهلكها من دون أن تكون لنا أية علاقة بظهورها أو بتطورها.
يكثر حاليا أصحاب الدعوات المشابهة لدعوة سعيد عقل، لكن عقل انطلق من وعي لغوي بالفصحى رفيع المستوى، بينما ينطلق معظم هؤلاء من جهل باللغة ونشوئها مترافقا مع عنصرية هوياتية مضادّة تماما للانفتاح الكوني الحاصل حاليا.