الليبيون والاستجابة للحلّ السياسي
تتقارب نتائج اجتماع رؤساء المؤسّسات الليبية (مجلس النواب، المجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي)، تحت رعاية جامعة الدول العربية، 10 مارس/ آذار الجاري، مع ما وصلت إليه اجتماعات مماثلة أخرى في ظهور الخلاف بشأن قوانين الانتخابات، وهو ما يعكس استمرار تشتّت مواقف الأطراف الليبية بشأن بعض جوانب الحل السياسي، ما يثير النقاش حول مساهمة مسارات ليبيا بعد معمّر القذافي في تجميع قدرات الدولة لبناء سياق الخروج من الوضع الانتقالي، وبالتالي، يساعد تناول ميراث المرحلة الانتقالية على الاقتراب من قيود الاستجابة للحلّ السياسي أو فرصه.
اتجاهات البناء والتفكّك
وبعد مرور 13 سنة على ثورة 17 فبراير، وخفوت تجربة المؤتمر الوطني العام، دخلت ليبيا في مرحلة عزلة ما بين التيارات السياسية والمؤسّسات عندما توسّع قانون الانتخابات (10/ 2014) في حرمان الأحزاب من التمثيل في مجلس النواب، لينخفض مستوى تعبير المؤسّسات عن المجتمع ويتوقف تطوير الأحزاب والمنظمات المدنية. وخلال هذه الفترة، تراجع الحراك الاجتماعي والمساهمات الفكرية، والتنظيمية. وتعكس أشكال الاحتجاج، بداية من حراك "لا للتمديد" وانتهاءً بمجموعات 17 فبراير القديمة والجديدة، مظاهر الخلاف على سير المرحلة الانتقالية، حيث ساهمت في تحضير المناخ لانقسام سياسي وقطع الطريق على تبلور حراك على المستوى الوطني، لينتشر احتجاج الفئات والمدن، وبشكلٍ يتماثل مع محدودية انتشار غالبية الأحزاب السياسية.
وكما عزّزت تلك المرحلة الانقسامات الاجتماعية والسياسية، لم تستطع ليبيا تجاوز تعثر انتخابات ديسمبر 2021. وبدا تركيز مقترحات الحل السياسي على دور رؤساء المؤسّسات التشريعية والتنفيذية عاملاً مشتركاً في إثارة الخلاف أكثر من البحث عن التوافق. وفي هذا السياق، جاءت محاولات جمع رؤساء مجلس النواب والأعلى للدولة، المجلس الرئاسي، غير أنه ثارت خلافات على ضم رئيسي حكومة الوحدة الوطنية والحكومة المؤقتة في شرق ليبيا، بالإضافة إلى قائد الجيش. وبمرور الوقت، بدت مواقف الأطراف أكثر ميلاً إلى التباعد. تتوافق هذه الخلاصة مع تقييم البعثة الدولية، 15 فبراير/ شباط 2024، بأن الأطراف الرئيسية في ليبيا غير مستعدّة لتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات، بسبب صعوبة شروطها لحضور الاجتماع الخماسي، فبينما يصر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح وقائد مليشيات شرق ليبيا اللواء المتقاعد خليفة حفتر على مشاركة الحكومتين أو استبعادهما، يرى رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة الاستمرار في السلطة حتى انتهاء الانتخابات، كما رجح رئيس مجلس الدولة، محمد تكالة، رفض قوانين الانتخابات لانفراد مجلس النواب بإصدارها.
تتراكم معوّقات الحل السياسي بصعود نفوذ الجماعات غير الرسمية على حساب الحُكم المعترف به دولياً
وعلى مدى هذه الفترة، ظلت محاولات التوافق على الانتخابات رهينة التنافس بين رؤساء الهيئات التشريعية والتنفيذية. وهنا، تبدو أهمية الاقتراب من العوامل وراء تفكّك مكونات الدولة وتبعثر الكتل السياسية، ويكشف التداخل ما بين الموقع الرسمي والنفوذ الفعلي عن غموض معايير المشاركين في التفاوض على تسيير الانتخابات، في مقدّمتها الشرعية، الاستقلال، انتفاء الفساد والعمل وفق القانون، هنا لا تعدّ حالة الاعتراف الدولي كافيةً لاكتساب المشروعية الدائمة، فهي مجرّد ترخيص بتسيير وضعٍ انتقالي وإقرار بالوضع القائم، وليست مصدراً للشرعية.
ومع طول الفترة، تتراكم معوّقات الحل السياسي بصعود نفوذ الجماعات غير الرسمية على حساب الحُكم المعترف به دولياً. وقد سَهلت هذه الوضعية لظهور حركيات المدن، المسلّحين والمحتجين، ضمن عوامل تحلّل الدولة، حيث يسود الوعي الجزئي لدى كل المكونات، لتعمل، في النهاية، على تفتيت المجتمع والدولة. ويمكن النظر إلى تعدّد الفاعلين علامة مَرَضية تعزّز حالة ما قبل الدولة. وفي هذا السياق، تكشف البيانات الفئوية لكلٍ من القبائل والمجموعات المسلحة عن مظاهر تعطيل الوصول إلى نظام الحكم وتأخير التسويات الانتقالية، فقد ارتبط ظهورها في المدن الليبية أو مناطق صناعة النفط والغاز بتكرار تعطيل الموارد وتشتيت طموحات الوحدة. ويشكّل نمو الروابط العائلية وشبكاتها على حساب الكيانات السياسية قيداً على لملمة الدولة، وتتضافر هذه الوضعية مع ضعف الأحزاب السياسية في تعقيد الوصول إلى الحل السياسي، فبينما تستقر ميول الحُكام على التَمَسك بالوضع الراهن، تعاني الأحزاب ومحاولات الحراك من نقص المحتوى السياسي وضغوط المجموعات العسكرية.
إعياء الوصول إلى نموذج الانتقال السياسي
يؤرّخ غموض تعريف مهمّة "المؤتمر الوطني العام" لمشكلات المرحلة الانتقالية، مع اندلاع النزاع بشأن مدّته وصلاحياته. فبينما رأى فريق أن مهمة المؤتمر تنتهي بوضع الدستور، ذهب آخرون إلى أنها سنة واحدة غير قابلة للتمديد. ورغم التوافق على انتخاب مجلس جديد، وفق مقرّرات لجنة فبراير 2014، ركّزت المعالجة على توسيع المادة 30 من الإعلان الدستوري، من دون تطوير النصوص القانونية لتكون ملائمةً لتحديد الاختصاص الوظيفي للمؤسّسات، ما مَهّد الطريق أمام توظيفٍ متضاربٍ للأوضاع القانونية، ولذلك حدث تداخلٌ والتباسٌ في تعريف وظائف المؤسسات.
أطاحت عوامل الخلاف أي فرصة لتحرير المجتمع من تَسَلط مكونات ما دون الدولة
ومنذ البداية، انشغلت الخلافات بين المكوّنات السياسية بمسألة تعريف الدولة، لم تقتصر المُطارحات بشأن نظام الحُكم، ولكنها أثارت مشكلة التكامل الوطني لدى الحديث عن الفيدرالية في مواجهة اللامركزية. شكّلت هذه البدايات مناخ التشكّك في تحقيق العدالة بين السكّان وجِدّية دمج المكونات الثقافية (الأمازيغ والتبو والطوارق) في النظام السياسي. ساعدت محدودية المقترحات على تنامي الوعي بالهوية الفرعية، ما وضع وحدة الدولة ضمن الخيارات السياسية. وتشير حيرة السياسيين بين الملكية والجمهورية، والمركزية والفيدرالية، إلى ندرة ميراث الدَّولة وتفاقم الوعي بالخلافات ما بين الأقاليم على حساب الوحدة.
على هذه الأرضية، تشكّلت ملامح اهتزاز العملية السياسية، فقد أطاحت عوامل الخلاف أي فرصة لتحرير المجتمع من تَسَلط مكونات ما دون الدولة، عندما انشغل مخيال الأطراف الليبية بالبحث عن نموذج تأسيسي، من دون تقديم أفكار كافية لصورة الدولة المبتغاة. وبينما حاولت النخبة الجديدة الاقتراب من نظام الجمعية الوطنية بوصفه نوعاً من التخفيف من حالة الجماهيرية/ الشعبوية، فإنها شكّلت نظاماً رسمياً يفتقر للقدرة على الاستجابة لمطالب القوى خارج المؤسّسات الرسمية. وقد أرست هذه الانطلاقة العيوب اللاحقة للمراحل الانتقالية، حيث وضحت عزلة الفاعلين السياسيين عن تطلّعات المجتمع، وانحصر الجدل فيما بين مجموعات السلطة؛ التشريعية، التنفيذية والمسلّحة، لِتَحول دون وضوح اتجاه علاقات السلطة والمواطنين. ويعكس تعدّد الحكومات، منذ 2014، مدى تشتت مصالح النخبة السياسية وضعف رغبتها في التلاقي على مفهوم للحُكم والاقتصاد والسياسة الخارجية.
وقد مَهد اهتزاز الأرضية القانونية لدخول ليبيا في مرحلة انقسامٍ، نتج عنها انخفاض الثقة الخارجية والداخلية في قدرة الليبيين على ملء فراغ السلطة وإدارة موارد الدولة، فخلال فترة ما بعد الاتفاق السياسي، ثارت نزاعاتٌ حول السلطة، أدّت إلى تعدّد الحكومات ومراكز النفوذ المحلية والخارجية، بحيث صارت ليبيا مجالاً للتنافس الدولي. وبغضّ النظر عن تشتت روابط الأطراف الليبية بالخارج، يمثل ارتهان البعثة الدولية لمجلس الأمن أحد عوامل تعطيل العملية السياسية.
تعمل جماعات السلطة على بناء دوائر الموالاة على أساس القرابة لتتحوّل إلى كتلة سياسية وأمنية حامية للوضع القائم
على أية حال، اتّسمت أعمال المؤسّسات الليبية برتابةٍ لا تلبي الحاجة للاستقرار والأمن، فعلى مدى السنوات، ظلّت اقتراحات المجلسين والحكومات المتعاقبة والمتوازية ضمن عمليات إعادة هيكلة الصراع أكثر منها بحثاً عن الخروج من الحلقة المفرغة. وفيما هيمنت مشكلة توزيع الموارد على الاهتمام الرسمي، تم تحويل مخصّصات التنمية لأجور واستخدامات ورشى. تمثّل هذه الدائرة قلب المشكلات السياسية الليبية، حيث تعمل على إضاعة التراكم الرأسمالي وتنمية عوائق الوصول إلى الوضع الدائم.
اختلاف الإدارة العامة
وفي غياب نظام دستوري، تعمل جماعات السلطة على بناء دوائر الموالاة على أساس القرابة لتتحوّل إلى كتلةٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ حامية للوضع القائم. ومنذ الخلاف بشأن اللجان المالية العليا في منتصف 2023، ظلّ الاقتصاد الليبي يعاني من عاملين: الأول، حيث يشكّل انحراف توزيع الإيرادات جوهر العمليات المالية، حيث تتزايد احتمالات بقاء ميزان المدفوعات في عجزٍ مستمرّ، وخصوصاً مع اضطراب إنتاج النفط أو صعوبة تحصيل إيراداته. وهنا، تشير تقييمات ديوان المحاسبة والرقابة الإدارية إلى تأثير العيوب الهيكلية في المؤسّسات العامة في تبديد الفائض الاقتصادي. أما العامل الثاني، فيعمل تقسيم مالية الدولة على تطوير الانقسام بين الشرق والغرب وانهيار الموازنة الوطنية (الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا عبد الله باتيلي، 15 فبراير/ شباط الماضي)، حيث تتضافر المغالاة في تقدير الإنفاق العام وغياب شفافية الإنفاق في زيادة هشاشة الاقتصاد في مواجهة الاضطرابات الداخلية والخارجية وانخفاض الاستجابة للتوزيع العادل بين السكان.
ومع فشل تشغيل اللجان المالية العليا، يتزايد تسرّب الإيرادات خارج المصرف المركزي، فخلال العامين الماضيين، صدرت قراراتٌ عديدة لهيكلة أجهزة الدولة، لم يصاحبها ضبط الإيرادات أو النفقات عبر المصرف المركزي. تتكامل هذه العيوب مع تعطيل المجموعات العسكرية والفساد للسلطة الرسمية، لتُنشئ بجانبها أنظمة فرعية في الضرائب والرسوم والتَحكّم في المال العام، ما يُعزز وعياً دون الدولة وتدميرا للرأسمال الاجتماعي والاقتصادي، ليمهد الطريق للتحوّل من الفائض المؤكد إلى العجز الدائم.
تتسارع عملية تجزيء السلطة لترسّخ انقسامات دائمة، لم تتوقف مظاهرها على كثرة التعديل في المؤسسات الحكومية وإنشاء هيئات جديدة
كما يعكس الإخفاق في بناء الجيش الوطني جانباً من التعايش السياسي مع الجماعات المُسلحة والشبكات القرابية، فمنذ السنوات الأولى، تراجعت الرغبة في معالجة انتشار السلاح ودمج المسلحين، لتتحوّل إلى ظاهرة سياسية ـ اجتماعية، تمكّنت من الاستحواذ على قطاعاتٍ مهمّة من الوظائف التقليدية للدولة. نتجت هذه الحالة عن العيوب المستمرّة للحكومات، فلم يجتهد أيٌّ منها في وضع معايير الإدماج، بل حاولت توظيف كتلة المليشيات ضمن الجهاز الرسمي محتفظة بقناعاتها الأمنية، لتكوّن حالة تمازج متبادل خارج المسار الانتقالي. وعلى الوجه الآخر، تبدو توجّهات خليفة حفتر إلى بناء نموذج للسلطة والسياسات العامة في شرق ليبيا أقرب إلى مشروعات تمكين منها لبناء الدولة، فعلى الرغم من حدوث التقدّم الظاهري في العمران، لا يتضح اتجاه تكاملها مع بقية المناطق أو ملاءمتها للمجتمع والسلطة المدنية.
على أية حال، يُمهّد اختلاف أنماط الإدارة لحدوث تباين بين شرق البلاد وغربها، فبينما تتكوّن سلطة مركزية، تشهد المناطق الأخرى تفكّكاً وصراعاً فيما بين الجماعات المسلحة والمكونات الرسمية، لتبدو البلاد أمام مشكلة تعدد النُظم الأمنية. وبجانب اختلاف الانفراط والتماسك، يُعطي عدم تكامل السلطة انطباعاً بإمكانية التقسيم إذا ما تاه طريق الوصول إلى حلول في المستقبل القريب، حيث تتسارع عملية تجزيء السلطة لترسّخ انقسامات دائمة، لم تتوقف مظاهرها على كثرة التعديل في المؤسسات الحكومية وإنشاء هيئات جديدة، وبجانب المجلس الأعلى للطاقة، يمثل إنشاء صندوق رعاية الشؤون الاجتماعية كياناً جديداً في الإنفاق العام.
الارتباك وتشتّت إعادة البناء
وبجانب عوامل أخرى، يعكس تردّد مجلس الدولة، 7 فبراير/ شباط 2024، في قبول قوانين الانتخابات لاعتبارها "معيبة" لمظاهر ضعف القانون والمتمثلة في استمرار المؤسّسات بدون نظام دستوري يزيل الغموض بشأن تحديد الطبيعة الاستشارية والتمييز بينها وسلطة الإقرار أو الاعتراض، ويعدّ النص على تكوين لجنة مشتركة من المجلسيْن، لتسوية الخلاف، عيباً في الاتفاق السياسي أدّى، في مراحل لاحقة، إلى تعطيل إصدار قوانين الانتخابات على نحوٍ خاص.
أخطأت كل التقديرات الأممية في الانتقال المؤسسي نتيجة تكاسلها في استخدام الصلاحيات القانونية وتحويلها إلى إجراءات سياسية
وقد انعكس الارتباك الداخلي في مضاعفة تأثير العوامل الخارجية على إعاقة الحل السياسي. وهنا، يتلاقى اهتزاز المواقف السياسية مع وجود قدرٍ من علاقات التبعية في تقويض الاعتبارات الموضوعية لتحويل الدعم الخارجي لصالح بناء الدولة، فلم تستطع الحكومات المتتابعة، أو المنظمّات العسكرية تكوين روافع الانتقال السياسي للخروج من ربقة الفصل السابع واستكمال السيادة الوطنية، فقد وقفت النخبة السياسية في وضع استقطابٍ لتجني ليبيا أعباء التنافس الدولي.
وفي مستوى آخر، يرتبط تقييم البعثة الدولية بعاملين: القدرة على استخدام صلاحياتها وفقاً لتطبيقات الفصل السابع المحميّة بالإرادة التنفيذية، ومدى فهمها التركيبة الليبية. وحسب تاريخية عملها في ليبيا، أخطأت كل التقديرات الأممية في الانتقال المؤسسي نتيجة تكاسلها في استخدام الصلاحيات القانونية وتحويلها إلى إجراءات سياسية. كما عملت مشاورات البعثة مع المكوّنات السياسية والاجتماعية على ميوعة الحل السلمي وتسهيل الصراع، حيث إن دخولها في استشارات لانهائية بدءاً من الجهات التنفيذية والتشريعية وانتهاءً بالممثليات المجتمعية، زاد من عدد الفاعلين من دون إطار ناظم من شأنه المساهمة في تطوير العملية السياسية. ويمكن الإشارة إلى تشكيل لجنة الـ 75 مؤشّراً على عشوائية البعثة في تشكيل كيانات وإهمالها من دون مبرّرات واضحة.
على أية حال، بدت أزمة ليبيا مشكلةً التفافية، يصعب فيها استكشاف القوة المُحرّكة للسلام، فخلال العقد السابق، جرى تدمير البنى المجتمعية والمؤسّسية، لتظهر محلها تجمّعات مصلحية واسعة التطلعات لتغييب الدولة. وبجانب الصعوبات الهيكلية، داخلياً وخارجياً، يكون من الأهمية إدراك الميراث القصير لتجربة الدولة التقليدية في ليبيا وغموض تعريف المصلحة المشتركة. وفي ظل المشكلات البنيوية، تتصاعد القابلية لمناقشة مصير الدولة على حساب محاولات تصحيح مسارات المالية العامة أو التقسيمات الإدارية للنظام الانتخابي، وهو ما يشكّل إزاحة للشعور بالاحتياج للدولة وخفض الاهتمام بالحلّ السياسي.