"المؤتمر الوطني" الجنوب أفريقي ونظيره الهندي ... مساران يلتقيان ويتقاطعان
لأول مرة منذ 30 عاما يفشل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا في الحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو/ حزيران الحالي. ولأول مرة منذ استقلال الهند عام 1947 يفوز حزب بهاراتيا جاناتا بثلاث ولايات انتخابية متتالية، في عمليةٍ لم تحدُث في التاريخ السياسي الحديث للهنج إلا مع رجل الاستقلال جواهر لال نهرو، زعيم حزب المؤتمر الوطني. وبين الحزبين صاحبي الاسم نفسه تشابهات عديدة: على مستوى النشأة، والتسمية، والكاريزما المؤسّسة، والمآل السياسي.
أسّست "المؤتمر الوطني" في الهند عام 1885 نخبة هندية تعلمت في إنكلترا، هدفها توسيع المشاركة الهندية في صنع القرار مع الاحتلال البريطاني. وفي جنوب إفريقيا، تأسس "المؤتمر الوطني الإفريقي" عام 1912، بهدف النضال ضد سيطرة البيض. ويعود تشابه اسمي الحزبين إلى تأثير المهاتما غاندي الذي بدأ نضاله ضد التمييز بين البيض والملونين من جنوب إفريقيا قبل أن ينتقل إلى الهند عام 1915.
في جنوب إفريقيا كما الهند، كان للتعبئة الثورية والكاريزما الشخصية لكل من "المؤتمر الوطني الهندي" و"المؤتمر الوطني الإفريقي" دوراً رئيساً في وصولهما إلى السلطة. وفي حالة الهند، مثلت شخصيتا المهاتما غاندي، ثم جواهر لال نهرو، عاملا مهمّاً في حشد حركة شعبية واسعة وراء حزب "المؤتمر الوطني" لدعم الاستقلال الوطني. وفي حالة جنوب إفريقيا، مثلت شخصية نيلسون مانديلا دوراً محورياً في حشد حركة شعبية للدخول في مفاوضات للانتقال الديمقراطي وإنهاء الفصل العنصري.
تبدو مقومات الديمقراطية في كلا البلدين غائبة: في حالة الهند، غابت شروط الديمقراطية في ظل فقر واسع وشديد الوطأة، وأمية واسعة، ونظام طبقات قسري ومهين، وفساد مستشر، وانقسامات عامودية ما قبل مدنية، وفي جنوب إفريقيا ما قبل الفصل العنصري، ثمّة فقر شديد الوطأة، وأمية منتشرة، وفقدان للمؤسسات، وإقصاء اجتماعي ـ سياسي حاد للسود من البيض.
ومع ذلك، نجح حزب المؤتمر الوطني في الهند بزعامة نهرو في قيادة البلاد خلال مرحلة ما بعد الاستقلال بفعل التأثير الكبير لشخصيته وشخصية غاندي من قبله، كما نجح "المؤتمر الإفريقي" بقيادة مانديلا بالانتقال إلى الديمقراطية التوافقية بين البيض والسود دامت نحو عام 1993 ـ 1994، ليتم الانتقال بعدها إلى النظام الديمقراطي الانتخابي عام 1994، وهي المرحلة التي رفض مانديلا، في نهايتها، الترشّح لولاية ثانية عام 1999.
انطلقت رؤية "المؤتمر الوطني" السياسية للهند مع غاندي ـ نهرو من منطلق ديمقراطي ـ علماني، فالهند ليست هندوسية ولا بوذية ولا مسلمة، إنها هذا الخليط الواسع الذي يضم أيضا السيخ والمسيحيين وغيرهم، ضمن تركيبة طالما وسمت تاريخ الهند البعيد منذ "الرامايانا" و"المهابهاراتا". وبالرؤية نفسها، قاد مانديلا سنوات حكمه، فالمرحلة الجديدة في جنوب إفريقيا لا يجب أن تقوم على الثأر من البيض، ولا على إقصائهم، بقدر ما تقوم على المشاركة لبناء مستقبل البلاد.
ما بعد نهرو ومانديلا
بعد 30 عاما من سيطرته "على المشهد السياسي" في جنوب إفريقيا، تراجع حزب المؤتمر الوطني في الانتخابات التي جرت أخيراً، فاقدا لأول مرة هيمنته على الأغلبية البرلمانية منذ أول انتخاباتٍ جرت في البلاد عام 1994، في مسار شابه ما جرى في الهند، فبعد 20 عاما من الاستقلال عام 1947، أخذ "المؤتمر الوطني الهندي ( أو حزب الكونغرس كما يسمّى أيضا) يتراجع بشكل ملحوظ في الانتخابات التشريعية الهندية عام 1967، ثم خسر الانتخابات بعد عشر سنوات عام 1977 أمام حزب بهاراتيا جاناتا، ذي النزعة الهندوسية الواضحة.
سلم غاندي، في عام 1929، رئاسة "المؤتمر الوطني" إلى نهرو، ثم استقال كليا من الحزب عام 1934، غير أن شخصية نهرو عوّضت غياب غاندي، وهو ما لم يحصل مع ابنته أنديرا غاندي التي اعتبرت، بعد وفاة والدها نهرو عام 1964، في نظر الشعب والنخبة السياسية امتدادا لإرثه، لكنها لم تكن تتمتع بمواهب والدها، فكانت مرحلة حكمها بداية نهاية هيمنة حزب المؤتمر وبداية جديدة لـ "بهاراتيا جاناتا". وإذا كانت السنوات اللاحقة لعام 1977 لم تُبعد الحزب نهائيا عن المشهد السياسي، فإنها أجبرته على تشكيل ائتلافات برلمانية مع أحزاب أخرى في مسار استمرّ حتى عام 2014، التاريخ الذي سيخرُج فيه "المؤتمر الوطني" من حكم البلاد ثلاث دورات متتالية، جديدها أخيراً انتخابات عام 2024.
ظل إرث مانديلا التاريخي في جنوب أفريقيا مهيمنا على الوعي السياسي والشعبي، وكان من الصعب إيجاد شخصية تملأ مكانه
وفي جنوب إفريقيا، ظل إرث مانديلا التاريخي، وسابقته السياسية بعدم الترشّح لولاية رئاسية ثانية، مهيمنا على الوعي السياسي والشعبي، وكان من الصعب إيجاد شخصية تملأ مكانه، كما حصل في الهند مع غياب نهرو عام 1964. وإذا كان "المؤتمر الوطني" الهندي قد وجد في ذرّية نهرو (أنديرا غاندي أولاً ثم ابنها راجييف) ما يجعل الحشد الشعبي مستمرّاً وراءه، افتقدت جنوب إفريقيا هذا الوضع مع رفض مانديلا دخول أحد من عائلته إلى العمل السياسي.
غير أن غياب مانديلا عن الحكم لم يمنع تأثيره على مستقبل الحزب، فاختار خلفا له هو ثابو مبيكي الذي يفتقد الكاريزما الشخصية، لكنه تمتّع بمهارات سياسية عالية. ومع مبيكي ثم جاكوب زوما (من رفاق مانديلا) استمرّ "المؤتمر الوطني" في الهيمنة على المشهد السياسي في جنوب إفريقيا، ولكن ليس بالزخم نفسه الذي كان في عهد الشخصية التاريخية نيلسون مانديلا.
أسباب التراجع
بعد وفاة نهرو بعامين، أحدثت مسألة حماية البقر في الهند انقساما داخل حزب المؤتمر، وهي أزمة فتحت الباب لمسائل أخرى تتعلق بسياسات الحزب الاقتصادية المتبعة منذ الاستقلال، وبلغ الخلاف مستوىً عالياً بين العلمانيين والمحافظين داخل الحزب بسبب تأميم المصارف، إلى أن قرّرت مجموعة من اليمين في الحزب الانشقاق، الأمر الذي سمح لغاندي بإعادة ترتيب صفوف الحزب. ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأ زعماء حزب "المؤتمر الوطني" التخلي عن رؤية نهرو العلمانية، متّجهين نحو خطاب يستقطب القومية الهندوسية. وإذا كان هذا الخطاب قد مثّل بالنسبة لأنديرا غاندي ثم ابنها راجييف مجرّد تكتيك انتخابي، فإنها أطلقت بذلك مساراً لعملية تسييس الدين.
ومع اندلاع مظاهرات عنيفة في ولايتي غوجارات وبيهار بسبب الأوضاع الاقتصادية، ردّت غاندي، في سابقة من نوعها، بإعلان حالة الطوارئ في البلاد، الأمر الذي أدّى إلى تراجع شعبية غاندي. وتراجع دور الحزب في هذه الفترة لصالح مركزية السلطة، وإن بقي الحزب الممسك بالسلطة، فقد عملت غاندي على إضعاف فروع الحزب في الولايات التي كانت بمنزلة القاعدة التأسيسية لزعماء الحزب، ثم استبدلت انتخابات الحزب على مستوى القاعدة بالتعينات من أعلى. ومع تراجع مركزية الحزب على مستوى الطبقات الفقيرة أولا، وتزايد الفساد في صفوف المسؤولين الذين عينتهم غاندي ثانيا، وفشل استراتيجية التنمية لحزب المؤتمر ثالثا، ظهرت بوادر استياء شعبي من مختلف المكونات تجاه الحزب، وهو ما أدركته غاندي التي سعت إلى اعتماد خطاب هوياتي ـ هندوسي يدغدغ مشاعر الأغلبية بما يحوّل نظرهم عن الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية للحزب.
كان عاما 1983 و1984 على موعدين مع حدثين هامين: في 1983 خسر المؤتمر الوطني لأول مرة ولايات الجنوب في الانتخابات التشريعية، وفي 1984 اغتيلت أنديرا غاندي. وفي غياب الأجندات الوطنية الكبرى، وفي غياب شخصيات كاريزمية، وجد الحزب في راجييف، نجل أنديرا غاندي، اسما ما زال أثره قويا في عقول الشعب وقلوبه.
أحدثت مسألة حماية البقر في الهند انقساما داخل حزب المؤتمر، وهي أزمة فتحت الباب لمسائل أخرى تتعلق بسياسات الحزب الاقتصادية
غير أن تخليه عن الخطاب القومي العلماني لصالح أجندات قومية وسياسية ضيقة دفع الحزب أكثر نحو الانهيار الانتخابي. ومنذ عام 1983، بدأ الحزب مسار انهيار بطيء حتى 2014، العام الذي خرج فيه من السلطة. وذهب الباحث تشارلز تيلي إلى أن الفترة بين عامي 1975 (فرض أنديرا غاندي قانون الطوارئ) و1994 (اغتيال راجييف غاندي)، وما بينهما من تصاعد للصراع الهندوسي ـ الإسلامي وإجراءات القمع الحكومية، هي فترات الإطاحة السريعة بالديمقراطية.
وفي جنوب إفريقيا، لم يتحسّن الوضع الاقتصادي، واتصفت السنوات الثلاثون لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في السلطة بتفاقم البطالة التي تبلغ حاليا 33%، فيما يعيش 55% من السكان في فقر حسب تقارير للبنك الدولي. وعلى مستوى الحكم، هيمن مبيكي على السلطة بقوة، غير أنه قام بخطوة أزعجت الشعب، واعتبرت انتكاسا لإرث مانديلا، ففي 2006 حاول مبيكي تغيير الدستور بما يمنحه ولاية رئاسية ثالثة، لكن "المؤتمر الوطني" أفشل هذه المحاولة. وفي هذا الوقت، كان جاكوب زوما (رفيق مانديلا في سجن روبن) يعمل بكامل قوته للحلول محل مبيكي رئيساً للحزب، فانقسم الحزب بين تيارين: داعم لمبكي وآخر داعم لزوما، إلى أن انتهى الأمر بفوز تيار زوما. وفي عام 2009، فاز جاكوب زوما في الانتخابات، وبدأت معه مرحلة الفساد الكبرى، حيث وجهت إليه مئات التهم، متعلقة بالفساد وسوء الإدارة قبل توليه منصب الرئاسة وخلاله.
ومع تزايد الوضع سوءا، أجريت انتخابات لرئاسة الحزب، فاز فيها كايرل رامافوزا، وبخلاف مبيكي الذي تنازل عن رئاسة الدولة بعد خسارة رئاسة حزب المؤتمر الوطني، رفض زوما التخلّي عن منصب الرئاسة بعد خسارته في الانتخابات رئاسة الحزب، وكانت هذه الخطوة نقطة أخرى ضمن نقاط الاستياء الشعبي تجاه الحزب وشخصياته الفاسدة.
انتهت الأزمة بتسويةٍ طالب بها زوما، مفادها إسقاط التهم الموجّهة إليه مقابل تخليه عن منصب الرئاسة، وهو ما حدث. وستكون لهذه الخطوة تداعيات كبيرة على مستوى الشعب، خصوصاً أن سياسة حماية الفساد بين أعضاء الحزب أصبحت ظاهرة منتشرة في مرحلة ما بعد مانديلا.
وفي غياب شخصيات كاريزمية مثل مانديلا، وانحدار أعضاء الحزب إلى صراعات ضيقة، وضعف قوة الحزب في السيطرة على أعضائه، ظهرت أصواتٌ سياسيةٌ داخل الحزب تعتمد خطابا راديكاليا ضد البيض (وهو ما حاربه مانديلا شخصيا) مثل جوليوس ماليما الذي طرد من الحزب عام 2013، وأسّس حزب "مقاتلو الحرية الاقتصادية" ذي توجه يساري، وضع على أجندته محاربة الرأسمالية، وضرورة اعتماد الدولة سياسة اشتراكية تؤمن للمواطنين السكن والعمل، وتأميم القطاعات الاقتصادية الكبرى، كمناجم الفحم.
بلغ الانقسام داخل "المؤتمر الوطني" إلى درجة انشقاق جاكوب زوما من الحزب، وتأسيسه حزبا جديدا "أومكونتو وي سيزوي" لخوض انتخابات عام 2024.
مستقبل الحزبين
حقّق حزب بهاراتيا جاناتا في الانتخابات البرلمانية الممتدة بين 19 إبريل/ نيسان ـ 1 يونيو/ حزيران 2024، نصراً قوياً، وضعه على رأس المنتصرين، غير أن نتائج الانتخابات كشفت عن وضع مشابه قريبٍ مما حصل مع حزب المؤتمر الوطني عام 1967، فقد حصل "بهاراتيا جاناتا" 240 مقعدا، مقارنة بـ 303 مقاعد فاز فيها قبل خمس سنوات، بخسارة تقدر بـ 63 مقعدا، وهي نسبة ليست قليلة. وتشكل هذه النتيجة (240 مقعدا من اصل 545 مقعدا) اضطرار "بهاراتيا جاناتا" إلى العمل مع شركاء آخرين. وفي المقابل، نجح حزب المؤتمر الوطني في الحصول على 99 مقعدا، مقابل 52 مقعدا حصل عليها في انتخابات عام 2019.
وتبيّن قراءة هذه الأرقام من كلا الجانبين أن الهوّة ما زالت كبيرة بين الحزبين، ولا يبدو في الأفق القريب إمكانية تغير هذه النتائج، فما زال الحزب يعاني من أزمة بنيوية عميقة، ولن يتغيّر هذا الواقع إلا بتغير الخطاب السياسي للحزب. وقد علمتنا الهند ما بعد غاندي ـ نهرو أن أي خطاب سياسي إذا ما أريد له النجاح في الانتخابات أن يستخدم لغة شعبوية هندوسية. (عذرا غاندي ونهرو، لقد انتهى إرثكما).
علمتنا الهند ما بعد غاندي ـ نهرو أن على أي خطاب سياسي إذا ما أريد له النجاح في الانتخابات، أن يستخدم لغة شعبوية هندوسية
وقد تراجع "المؤتمر الوطني" في جنوب إفريقيا بشكل قوي في الانتخابات قبل أيام، حاصلا على 159 مقعدا فقط من أصل 400، ما يشكّل انتكاسة قاسية له بعدما كان له 230 مقعدا في البرلمان المنتهية ولايته. وحصل أكبر حزب معارض، التحالف الديمقراطي بقيادة جون ستينهاوزن، على 87 مقعدا، فيما أصبح حزب أومكونتو وي سيزوي بزعامة زوما ثالث قوة سياسية في البلاد، إذ حاز على 49 مقعدا، في نتيجة مفاجئة بالنظر إلى أن الحزب تأسس قبل بضعة أشهر فقط. وتفيد هذه الأرقام بأن "المؤتمر الوطني الإفريقي" يتخذ السيرورة نفسها التي حكمت مسار "المؤتمر الوطني الهندي"، والمسألة ليست إلا مسألة وقت حتى نجد "المؤتمر الإفريقي" خارج السلطة.
وبغضّ النظر عن مدى تعاطفنا، نحن العرب، مع الحزبين الكبيرين في الهند وجنوب إفريقيا (المؤتمر الوطني الهندي، المؤتمر الوطني الإفريقي)، فإن الديمقراطية ليست سوى حكم الأغلبية، على أن تتحوّل أغلبية اليوم إلى أقلية غداً، وتخضع لقانون يعبّر عن مصالحها، لكنه يمنعها من الدفاع عن حقوقها الأساسية.