المتأخرون في مصر
أصيبت مؤسسات الدولة المصرية في السنوات الأخيرة بمرض اسمه "التأخّر". وتفاقمت أعراض ذلك المرض بوضوح في العامين الماضيين، إذ اتسمت ردود أفعال الحكومة المصرية، بمختلف مؤسساتها وأجهزتها، بالتأخر الشديد، وليس فقط البطء في مواجهة جائحة كورونا وما فرضه فيروس كورونا من إجراءات وقيود صارمة في مختلف الدول. بينما كانت مصر من أواخر الدول التي طبقت الإغلاق، سواء في الداخل أو على منافذ الدخول، وكذلك الأمر بالنسبة لمختلف مراحل مواجهة الجائحة وتوقيتاتها، الأمر الذي أظهر مصر بصورة سيئة مقارنة ببقية الدول، بما فيها المتخلفة.
وما إن انزاحت غُمّة كورونا جزئياً، إلّا وفوجئ العالم بأزمة الحرب الروسية الأوكرانية. وبينما تقترب الأزمة من إكمال عامها الأول، لا تزال الدولة المصرية تتخبّط في مواجهة تداعياتها. رغم أنّ أيّ دارس مبتدئ للاقتصاد كان يدرك مسبقاً مخاطر تلك الأزمة على سلاسل التوريد الغذائية، خصوصاً الحبوب، فضلاً عن اضطراب سوق الطاقة العالمية. وتبعات ذلك من تضخّم وارتباك في دول كثيرة، خصوصاً التي تملك فاتورة استيرادية باهظة مثل مصر. رغم ذلك كله، كانت الحركة المصرية متأخرة دائماً، وربما بعد فوات الأوان. فخلال فعاليات بطولة كأس العالم في قطر قبل شهرين، راحت الحكومة المصرية تبحث أوجه الاستفادة من إقامة كأس العالم في قطر في تنشيط السياحة إلى مصر، وذلك بعد بدء فعاليات البطولة بأيام عدة.
الغريب، حقاً، أنّ ذلك "التأخّر" الحكومي في مصر ليس مقتصراً على الأزمات والأحداث الطارئة أو الفعاليات الاستثنائية، وإنما هو نمط عام، يشمل أيضاً القرارات اليومية في إدارة الدولة، فمثلاً، يعاني المصريون بشدّة من ارتفاع الأسعار وتزايد رهيب في معدّلات التضخّم، لم تتحرّك الحكومة المصرية لا لكبح الأسعار ولا لإنفاذ قوانين حماية المستهلك. وبدلاً من ذلك، خرج رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، يدعو المواطنين إلى إبلاغ الحكومة في حالة ارتفاع الأسعار! وبالطبع، نال الرجل ما يستحقّ من سخرية عبر وسائل التواصل، ليس فقط لتجاهله وجود مؤسّسات رقابية وأجهزة لها حق الضبطية ومهمتها الأساسية ضبط الأسعار، لكن أيضاً لانعزاله ذهنياً وفعلياً عن الواقع، فقد بدا من حديثه كأنّ الحكومة لا تعلم أنّ الأسعار قفزت بالفعل إلى مستويات خيالية.
وفي ملف آخر، قررت الحكومة المصرية تعديل شروط مبادرة السماح للعاملين في الخارج باستيراد سيارات. وذلك لضعف الإقبال بسبب شروط غير منطقيةٍ جعلت المبادرة غير ذات جدوى. وحدث أيضاً التراجع نفسه في ملفات أخرى، لعلّ أشهرها قانون التصالح في مخالفات البناء، وقانون إجراءات "الشهر والتوثيق العقاري". وغير ذلك من قوانين وقرارات حكومية رسمية يُفترض أنها روجعت وروعيت فيها القابلية للتطبيق في الواقع، فضلاً عن تقدير الجدوى النهائية منها. لكنّ الحكومة لا تلتفت إلى الملاحظات المسبقة ولا تستمع إلى التحذيرات اللاحقة إلّا متأخرةً، فتفكّر طويلاً ثم تشرع متأخرةً للغاية في التعديل أو التصحيح، بعد أن يفرضه الواقع والتجربة الفعلية.
ويتكرّر نموذج التأخّر نفسه في التعامل مع أبسط الأمور اليومية. مثلاً، معروفٌ أنّ الشتاء يأتي سنوياً منذ بدء الخليقة، لكنّ المسؤولين والتنفيذيين لم يتحرّكوا لمواجهة الأمطار والسيول في أي عام، إن تحرّكوا، إلا بعد غرق الشوارع وتوقف الحركة.
المفارقة أن هذا التأخّر المزمن مقصور حصرياً على ما يخدم الوطن والمواطن. أما ما يخدم السلطة أو يزيد حصيلتها من إيرادات، فلا تأخير له ولا تدقيق، وإنما تنفيذ سريع وحاسم لا رجعة فيه. وما دام الضرر والكلفة بعيدَيْن عن السلطة ومؤسساتها، يظل المسؤولون المتأخّرون، كما هم دائماً، متأخّرين في كلّ شيء، حتى في إدراك أنّهم متأخرون.