المجنون والبئر
ما يزال "العقلاء" يجهدون لإخراج الحجر الذي ألقاه "المجنون" في البئر، على حين غرّة، بعد أن ظنّوا أن المياه استتبت نقيّة في قعرها، ولم يعد ثمّة ما يحول دون إنزال دلائهم في غيابتها، وغدا "الاستقرار" سيّد الموقف، حتى جاء هذا "المجنون" الذي أعادهم إلى المربع الأول.
والحال أنها لم تكن السابقة الأولى من نوعها التي يقترفها هذا المجنون بحقّ بئر القوم "المستقرّ"، وهو ما فاقم من حنقهم وغضبهم، فقد فعلها مرّات متعددة قبل ذلك، منذ عقود مضت، وتحديدًا عندما شهدت البلاد هبّة شعبيةً عظمى احتجاجًا على غلاء الأسعار، وما أعقبها من انفراجة ديمقراطية، ظنّ الجميع أنها ستكون مقدّمة لتحوّل جذريّ في الحياة السياسية للبلد على طريق إطلاق الحريات العامة، والتعدّدية الحزبية، وسيادة القانون، إلى آخر تلك المصطلحات التي كان ينادي بها كثيرون، ودفعوا ثمنها من أعمارهم في السجون والزنازين، والتضييق على أرزاقهم وتحرّكاتهم. فراح الجميع يهيئون دلاءهم لإنزالها إلى البئر، غير أن هذا المجنون قطع عليهم الطريق، عندما ألقى أول حجارته في غيابة الجبّ، فأفسد ماءها.
كانت ذريعة المجنون، آنذاك، أن ما يحدُث ليس أزيد من خداع بصري لذرّ الرماد في العيون، وامتصاص الغضب الشعبي. قال لهم إن هذه الحريات المعسولة ستظل ناقصةً ما لم يصبح الشعب نفسه هو صانع القرار أو مشاركًا فيها مشاركة جذرية، في الأقل. وأما البرلمان الذي يحاول النظام بيعه وتسويقه على الناس، فلن يكون في أي يوم صاحب قرار؛ لأنه قائمٌ على المحاصصات والجهويات والقبليات، وكذلك الحكومات ذاتها؛ فالحكام الفعليون أجهزة أمنية ومحاسيب يتوارون خلف الستار، ويوجّهون الدمى كيف يشاؤون.
غير أن "العقلاء" لم يأخذوا هذه التحذيرات على محمل الجدّ؛ لأنها تصدُر من مجنون، وعابوا عليه "تعكير" البئر، فآثر المجنون أن يقنعهم بطريقةٍ أخرى، عبر المشاركة في الانتخابات التي حملته إلى البرلمان بأعلى الأصوات، لكنه سرعان ما حوصر وحوكم بقوانين الحرّيات نفسها التي كان له فضل تمريرها في البرلمان. ثم عادت البئر إلى استقرارها، خصوصًا وأن المجنون انكفأ على نفسه، بعد أن شعر بالخيبة من أناسٍ دافع عنهم وهتف باسمهم وسجن من أجلهم، فكافأوه بالجحود والنكران، بل اتهموه بـ"الجنون".
كل ما كان يريد المجنون إيصاله إلى "العقلاء" أن البئر التي يستسقون منها وينزلون دلاءهم فيها، هي بئر حافلة بالطحالب والملوثات، وأن "الاستقرار" الظاهري الذي يرونه على السطح يواري في قعره بؤسًا مهولًا، واحتقانات، وفقرًا مدقعًا، وبطالةً مقنعة، وأخرى مكشوفة العورات، وأن مبتدأ القرار وخبره يختزلهما "صاحب البئر" بإيماءةٍ واحدةٍ أو بتلويحة إصبع، كونه المتحكّم بالبئر، يفتحها ويغلقها بمزاجه ووفق مشيئته، وبأوامر عُرفية إن لزم الأمر، فقوانين الطوارئ هي أسهل القرارات التي يمكن أن يتخذها الحاكم العربي لأتفه الأسباب، وآية ذلك جائحة كورونا التي غدت جائحتين، بالفيروس وأحكام الدفاع. وسينحسر الوباء وتبقى الأحكام العرفية؛ لأنها فرصة الحاكم العربي لتمرير ما يشاء من قرارات، بما في ذلك التحالف مع إسرائيل إن لزم الأمر.
المهم، على الرغم من أن المجنون انكفأ بعض الوقت، غير أن ذلك لم يمنعه، بين حين وآخر، من إلقاء حجارة صغيرة في مناسبات متعدّدة، لكن سرعان ما كان "العقلاء" يحتوون الموقف، ويخرجون حجارته من البئر، من دون أن يخلو الأمر من جولات اللوم والتقريع بالطبع، ثم "استقرّت" البئر مجدّدًا، بفضل "العقلاء" الذين أدمنوا شرب الطحالب، حتى استساغوها، وتعايشوا مع غياب الحقوق حدّ أنهم باتوا يعدّونها "رفاهيات" و"كماليات" لا ينبغي تلويث البئر الآمنة، المستقرة، بها. .. غير أن ما حدث، أخيرًا، شكّل طامّة كبرى بحق القوم، عندما بزغ "المجنون" من جديد، ليلقي حجرًا ضخمًا هذه المرّة، أضخم بكثير من وزنه في مقاييس "العقلاء"؛ لأنه لم يعد يستهدف البئر بل صاحب البئر.
ولا يعرف إذا كان "العقلاء" سيحتوون هذا الموقف أم لا، لكن ما هو مؤكّد أن الأمر بات يحتاج أزيد من طبيب نفسي؛ لنعرف، على الأقل، أن من يرمي الحجارة في البئر عاقلٌ أم مجنون؟