المسافة الغامضة ما بين سيوران وبيسوا
جعلها سيوران كالعدم تماما بعدما أغلق النافذة، بإرادة كئيب ضالع، على كل مداخل العالم ومخارجه ومباهجه وانتصاراته، وكأنه في انتظار قيامةٍ أخرى تخصّه، بينما حاول بيسوا جاهدا، شعرا ونثرا، أن تكون تلك النافذة مدخلا بسيطا لبعض الأصوات أو الموسيقى، لا كتعبير عن الإيقاع أو الفرح أو الاندماج في صخب الأرض أو كرنفالية المرح تلك، ولكن كما قال سقراط: ولمَ لا تصبح الموسيقى بديلا للفلسفة؟
كان بيسوا يصنع البديل لكل شيء، حتى البديل لشخصه هو، في شخصياتٍ أخرى، كي يبتعد عن مركزية الذات التي تخطّط أو تنتظر ملامح الفرح أو البهجة، كان بيسوا أكثر انفلاتا من الكآبة من سابقه، خلال تنقله ما بين النثر والشعر واختراع ذواتٍ أخرى تتناكف وتتجادَل مع ذاته المسيطرة على عوالم كتابته، بعكس سيوران الذي ظل وفيا لذاته، وهادما أي فلسفة، حتى وإن كانت لنيتشه الطامع الأكبر في الهدم والتخريب.
كان سيوران قد أعدّ العدّة لغلق كل النوافذ، كي يعيش الوحدة فقط، بيأس تدرّب عليه في أديرة قديمة، نسى رموزها تماما، بعدما استظلّ بغيمة وحدته وكآبته في باريس سنوات لا يتعامل مطلقا مع صحافتها ولا إعلامها، لا من بال الزهد أو التعالي، ولكن من باب القطيعة التي رسمها لنفسه بإحكام داخل ذاته، كنقيض فردي لحضارةٍ لا يطيق انتصاراتها ولا فرحها ولا منجزها، بينما كانت نوافذ بيسوا شبه مجرّدة، لمجرّد الإطلالة على الذات أو داخلها أو تأمل الأشياء التي حوله من دون أن يؤمن هو الآخر بأية فلسفة جامعة مانعة، تجعله كتلميذ لأحد، نافذة، إلى حد ما، مواربة بزاوية صغيرة جدا، لسماع أصوات العالم، أو بقية أصوات قطرات المطر في آخر الليل أو عودة السفن بأشرعتها البعيدة عبر الموانئ التي يتخيلها خلال كوابيسه أو أحلامه.
كانت الملكية عند الاثنين كأنها وهم ما من الأوهام، أما الزمن فكان يشبه الخادم عند سيوران، رغم عدم صوفية الاثنين، حتى وإن كان الشرق يمثل مائدة ثقافية فقط وليس سلوكا، يقول سيوران: "الأمس واليوم وغدا: مقولات مخصصة للخدم".
أما بيسوا فيقول: "كل ما امتلكته هو ما لم أعرف البحث عنه". واحد ترك مروج رومانيا وعشبها وأغنامها والمياه بجوار حائط كنيسة، وفرّ إلى باريس كي يصفع العالم كله، ويصمت مكتفيا بالكآبة، والآخر تحصّن بمكتب صغير للعمل فيه محاسبا لسفائن الشحن، يكتب إبداعه ويضع ما يكتبه في صحارات وينساه حتى مات.
كان بيسوا وكأنه يعوم وحيدا في نومه على ظهر مركبٍ قديم ولديه القدرة، من حلمه، على ملامسة رأس الرجاء الصالح أو أهرامات الجيزة، محاولا، في مرارةٍ معتادة بلا شكوى أو ألم، فكّ الصمت ما بين شفتي أبي الهول، كان بيسوا كمن يقرأ البيوت من دون أن يدخلها، وتشير إليه يافطات الشوارع، من دون أن يعرف لغتها، وكان قد تراضى مع كل فلسفات العالم من دون أن يقتنع بفلسفة، عكس سيوران الذي نظر بريبةٍ واستقواءٍ كئيب لكل حديث فلسفي، يقول بيسوا: "في هذه الساعة التي أحسّني فيها متنقلا عبر مركب، أريد امتلاك المكر الكامل للقول"، كان بيسوا يريد القول الماكر، أما سيوران فقد كان يريد أن يطعن في حكمة أي قول.
في محيطه الأدبي المحدود جدا، كان فرناندو بيسوا يبدو مسالما جدا. أما على النطاق الإنساني فعلاقته به مجرّد همهمات ومتابعة بالنظر، مثل بقعة مياه تكوّنت بعد ليلة مطيرة أو صوت أقدام ترتطم ليلا بأعلى البناية بعد فتح بابٍ ما، من دون أن تشير متابعاته إلى أية مودّة أو خصومة أو حتى أي أثر، وكأنه هو وحده قطعة فريدة من العالم تمشي إلى شأنها مقطوعة الصلة بكل من حولها، باسثناء إشاراتٍ طفيفة، إلى الخالات أو بعض أفراد الأسرة، وذلك عكس سيوران الذي أبدى غضبه من جوقة العالم كله وفلسفاته ونظرياته، حتى طال غضبه صموئيل بيكيت الذي كان قريبا منه في المجالسة، وبعيدا عنه بالصمت، حتى صمت بيكيت لم يسلم من غضب سيوران، واصفا بيكيت: "أعتقد أنه لا يقل عنادا عن المتعصب". وأكمل في وصف بيكيت متهكما: "إنه لا يغتاب أحدا، إنه يجهل الوظيفة الصحيّة للعدائية وفضائلها المفيدة ومزيّتها كمتنفس، لم أسمعه يوما يميّز أصدقاء أو أعداء، ذلك النوع من التفوّق يثير شفقتي عليه، ولا شك أنه في لاوعيه يعاني منه"؛ هل لذلك يصف سيوران نفسه: "كنت طيلة حياتي من هواة المقابر"، بينما تصرّف بيسوا مع العالم كمتصوّف زاهد، يخاتله الزهد من دون أن يقوم بواجباته، يعبر العالم كطيف أو كضيف ملول لا يحب الضيافة، حيث هناك مهرجان آخر يشغل خياله على الضفة الأخرى من العالم.