المشيُ فِعْل مُقاومة
في باريس، عدتُ أمشي. أنا إجمالا لا أبتعد عن دائرتي المقفلة، الدائرة الخامسة، حيث هبطتُ منذ مغادرتي لبنان في خضمّ الحرب الأهلية. وها أنا اليوم قد عدتُ إليها في خضّم الانهيار اللبناني. والحق أني لستُ من محبّي الرياضة عموما، على أنواعها، ولطالما أشعرني كسلي الجسديّ، إذا صحّ التعبير، بالذنب والتخاذل عن ممارسة حركةٍ تحظى عموما بكل التقدير والاعتبار.
في باريس، عدتُ أمشي بإرادتي، ومرغمة، كي أتفادى ركوب المترو. لستُ أدري إن كان المشي في المدن العربية أمرا متوفرا أو محبّبا أو ممكنا للنساء، فهؤلاء قلّما تمشّين في شوارع مدنهنّ، حيث الفضاء العام يُقصيهنّ ويطردهنّ. النزول إلى فضاء عام يحتلّه الذكور بشكل كامل خرقٌ للأصول والأعراف، تحدٍّ، استفزاز، وهو لذلك بات يُداوى بالتحرّش والمضايقة. لذا، لا يُسمح إجمالا للمرأة العربية بأن تنزل إلى الشارع إلا إذا امّحت، اختفت، صارت بقعةً سوداء تعبُر بخفر ولا تُطيل. في بيروت، كان الفضاء مفتوحا لنا، نحن النساء، لكن الطرقات ضيّقة، والأرصفة ضائعة، والمساحة مصادرة ومقفلة في وجه المشاة.
هنا، عدتُ أمشي. أنا لا أحكي عن المشي كرياضة، بل كفعل حياة، كفعل يشابه بقية أفعال العيش. الإنسان تطوّر بفعل الحراك. لو لم يمشِ، لبقي مختبئا في الأشجار. وإذ تقدّم مرتفعا على قائمتيه لاستشراف خطر مقبل، حرّر يديه ومن ثم عقله. أنا، كنت أمشي في عقلي، أمشي حتى الإنهاك، حتى الوقوع أرضًا غير قادرةٍ على النهوض. الكتابة مشيٌ في الرأس. قال نيتشه إن الأفكار القيّمة تأتي فقط خلال المشي الذي يحرّر الفكر، فيما اعتبر الجلوس خطأ وإساءة إليه. كثـرٌ من الفلاسفة أشادوا بفضائل المشي وتأثيره على استقدام الأفكار وأفكارها، لكني كنت دائما أميل إلى فلوبير الذي قال: "لا يمكننا الكتابة والتفكير إلا جلوسا". لقد حاول بعض السورياليين الكتابة في أثناء السير، كما كان يفعل أرسطو الذي شاع عنه أنه كان يُعطي تعاليمه سائرا.
المدافعون عن المشي وأتباعه يقولون إنه فعلٌ مرتبط بشكل وثيق بتاريخ الفكر. أما العلماء فيُرجعون الأمر إلى أن تحريك الجسم يغذّي الدماغ بالدماء، ويُبقي العقل متنبّها. هناك رهط من الفلاسفة المشّائين من أمثال روسّو الذي اعتبر أن "في المشي شيئا ينشّط فكري ويحييه. أنا لا أستطيع التفكير حتى إذا بقيت في مكاني، ينبغي أن يهتز جسدي لكي ينشط فيه عقلي". كانط كان يقوم كل يوم بالمشوار نفسه، وفي الموعد الدقيق ذاته، بحيث قيل إن سكّان مدينته كانوا يضبطون ساعاتهم على ميعاد مروره، باستثناء اليوم الذي خرج فيه لشراء الصحيفة التي نشرت خبر اندلاع الثورة الفرنسية!
أنا، أخيرا، عدتُ أمشي في باريس. ويوميا، أشعر أن المسافة نفسها التي أقطعها باتت تقصر شيئا فشيئا. يوميا، أعد نفسي بإطالتها، لكني أنكفئ في آخر لحظة. أفكّر بأن المشي بات فعل مقاومةٍ في زمن يدفعنا كلُّ شيء فيه إلى الركون. كل شيء. وسائل نقل، وفضاءات افتراضية، ومساحاتٌ تتقلّص، ومدى ينعدم، وآفاق تتلاشى، وحرياتٌ تضيقّ. هيا قُم أيها الكسيح وامشِ. البشرية باتت كسيحة. البشرية ما توقّفت أبدا عن سيرها. إذا توقّفت ماتت. في كتابها "فنّ المشي"، تقول الباحثة الأميركية ريبيكا سولنيت عن آلة المشي أو الركض التي نستخدمها في البيت، ولا تسمح بالذهاب إلى مكان، "إنها جزء من التجهيزات العديدة التي تشجّع على الانكفاء نحو الفضاء الخاص، وتشكّل بهذا المعنى تسويةً يُخشى أن تُقنع الناسَ، في نهاية الأمر، بعدم المساهمة في جعل العالم قابلا للسكن، أو بعدم المشاركة ببساطة في الحياة الجماعية .. على الآلة، يفقد المشيُ كلّ علاقة بالتأمّل، باللقاء، بالاكتشاف، ليصبح حركةً متناوبةً لأطرافنا السفلى".