المغرب والجزائر .. انتحار العقل
هل هو كيلٌ قد طفح في المغرب، أم أنه توجّه سياسي استجدّ في عمل الرباط الدبلوماسي تجاه الجزائر؟ مناسبة السؤال أن ممثل المغرب في الأمم المتحدة، عمر هلال، خاطب الرئاسة الأذربيجانية لاجتماعٍ وزاريٍّ لحركة عدم الانحياز (عجيبٌ أنها ما تزال موجودة!)، عُقد افتراضيا، في مذكّرة رسمية، أورد فيها أن ما سمّاه "شعب القبائل الشجاع" (في الجزائر) يستحق "أكثر من أي شعب آخر، التمتع الكامل بحق تقرير المصير". ووصف الدبلوماسي المغربي هذا الشعب بأنه "أحد أقدم الشعوب في أفريقيا، والذي يعاني من أطول احتلال أجنبي". وللحق، هذا تصعيدٌ شديد الخطورة في الخطاب السياسي المغربي تجاه الجزائر، ومتغيّر ينذر بمزيد من التردّي في علاقات البلدين الجارين، والتي تعرف، سيما بعد انتهاء ولايات رئاسة عبد العزيز بوتفليقة، تدحرجا متواصلا نحو توتّرات صعبة، وحادّة. وليس انحيازا للمغرب، ولا تأكيدا متجدّدا على مغربية صحرائه، وعلى وحدته الترابية، ظلت الجزائر، بما يصدُر عن مسؤوليها، ومنهم رئيس الأركان الحالي، السعيد شنقريحة، المصدر الأوضح للتوتر الذي ما انفكّ يزيد، وساهمت الصحافات في البلدين في إشعاله أكثر وأكثر. ولكن الحال، بعد المذكّرة المغربية الأسبوع الماضي، غيرُه قبلها، سيما أن ردّ الخارجية الجزائرية لم يكتف باتهام الرباط بالعدائية، وإنما اتهمها أيضا، صراحةً، بدعمٍ "متعدّد الأوجه" (؟) لجماعة إرهابية معروفة (ما هي؟). وماثَل هذا الدعم بما كان من دعم مغربي (بحسب البيان)، "الجماعات الإرهابية التي تسبّبت في إراقة دماء الجزائريين خلال العشرية السوداء". والظاهر هنا أنه لم تعُد ثمّة خطوطٌ حمراء في الاشتباك السياسي والدبلوماسي. ولا يملك المراقب لهذا المنعرج إلا الاتفاق مع البيان الجزائري في وصفه مساندة الرباط استقلال منطقة القبائل بأنها "انحرافٌ خطير"، وقد زاد البيان بأنها "تصرّفٌ مغامرٌ ولا مسؤولٌ وتحريضي". ولا يستطيع واحدُنا إلا أن يتفهم الغضب الجزائري المهول، والمحقّ، غير أنك، مطالبٌ، في الوقت نفسه، بأن تعرف أن المذكرة المغربية، موضوع الأزمة العاصفة، كانت ردّا على كلام وزير الخارجية الجزائري، العائد إلى موقعه أخيرا، رمطان (وليس رمضان) لعمامرة، في اجتماع اللجنة (ما الداعي له أصلا؟) عن دعم بلاده حقّ تقرير المصير لسكان الصحراء الغربية، من دون أن يكون موضوع الصحراء مدرجا في جدول الاجتماع.
إذن، هو غياب العقل، أو انتحارُه على الأصحّ إذا شئنا الوصف الأدقّ للذي يحدث بين الجزائر والمغرب، في جديد أطوار الخلاف المديد بينهما. ولربما أمكن القول إن تصاعد التأزّم كان متوقعا، بعد الحملة الإعلامية الجزائرية الضارية على المغرب، إبّان موقعة الحسم العسكرية التي أجرتها الرباط مع مسلّحين من "بوليساريو" في منطقة الكركرات الحدودية مع موريتانيا، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وليس منسيّا قول الفريق شنقريحة في موسكو، الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، إن الصحراء الغربية آخر مستعمرات إفريقيا التي يطمح شعبها إلى تحقيق تقرير مصيره، وإن المحتلّ (المغربي) يعمل على إلحاقها به بالقوة. ولمّا كان مؤكّدا أن كلاما كهذا (وكثير مثله رسمي وغير رسمي في الجزائر) لن يُستقبل في الرباط بغير الغضب والحنق، إلا أن سقوف الظنون السوداء لم تكن تصل إلى أن تعمَد الدبلوماسية المغربية إلى تسمية ستة ملايين جزائري في منطقة القبائل واقعين تحت احتلال، وإنْ في البال أن دبلوماسيا مغربيا في بعثة بلاده في الأمم المتحدة دعا، في عام 2015، إلى منح "الشعب القبائلي" (!) الحكم الذاتي، غير أن كلامه مرّ في حينه، بعد أن طوّقت الرباط تداعياتٍ له كانت محتملةً.
إنها قضية الصحراء، إذن، والتي وصفها بطرس غالي، قبل أكثر من 25 عاما، بأنها ثاني أعقد قضايا العالم (بعد قبرص)، لا يُراد لها أن تعثر على حل. وليست الرباط على قناعةٍ بصحة كلام الجزائر عنها قضيةً منظورةً في الأمم المتحدة ولا تتدخل فيها. وليس من قرار أميركي، أو دولي، بإنهاء هذه المسألة، في الوقت الذي تعرف مدن الصحراء المغربية وحواضرها نهوضا ملحوظا في مشاريع تنمويةٍ لا تتوقف، وتشهد استقرارا أمنيا، وتُفتَتح في مدينة العيون فيها القُنصليات .. ولكنْ، هذه واحدةٌ من نواتجها تستجدّ أخيرا، يستقيل في غضونها العقل أو ينتحر، عندما يكون اللعب بالنار أقلّ هولا من اللعب في منطقة القبائل الجزائرية.