المغرب والجزائر .. كلّ هذه المباريات
مؤكّدٌ أنّ عروبيةً وطنيةً حقّةً تقيم عليها القيادة الجزائرية وراء استقبالها، الأسبوع الماضي، الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، وإعلانها، بحضوره وموافقته، عن استضافتها "مؤتمراً جامعاً للفصائل الفلسطينية" (قريباً)، وتقديمها مائة مليون دولار للسلطة الوطنية، و300 منحة دراسة لطلابٍ فلسطينيين في الجامعات الجزائرية. غير أنّ هذه البديهية لا تنفي أنّ في توقيت هذا كله ما ينطوي على تسديد ركلةٍ ناجحةٍ في شِباك المغرب، بعد أقل من أسبوعين، من استضافة الرباط وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، وتوقيع "مذكرة تفاهم" تتضمّن تزويد دولة الاحتلال المغرب بمعدّاتٍ عسكرية، وإجراء تدريبات مشتركة، وتعزيز التعاون الاستخباري. ولا تقفز هذه الإشارة على ما لفلسطين وكفاح شعبها من مكانةٍ عظيمةٍ في أفئدة المغاربة، ولا على كثيرٍ أعطوه لها في غير واقعةٍ ومناسبة، ولا على إسنادٍ دائمٍ ما قصّرت فيه يوماً تمثيلاتُهم الوطنية والحزبية، بمختلف تلاوينها. كما لا تغفل عن جهودٍ طيبةٍ للدبلوماسية المغربية، عقوداً، في تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني. غير أنّ في الوُسع أن تُحسَب التسديدة الجزائرية في الملعب الفلسطيني، في غضون زيارة عبّاس، في بعض ما اشتملت عليه، ردّاً على "هجمةٍ" مغربيةٍ، متخيّلة، تبدّت في الذي صار في زيارة غانتس.
يأتي إلى الخاطر شيءٌ من هذا التصوّر بمناسبة المباراة البديعة التي شاهدها ملايين العرب، بين منتخبي المغرب والجزائر، في ملعب الثّمامة في الدوحة، وعوينت فيها أرفعُ المناقبيات، وأصفى مشاعر الود والأخوّة بين لاعبي المنتخبيْن، في جوّ من التنافس الأنيق واللعب الرفيع. يشاهد واحدُنا هذا كله بمزاجٍ رائق، على غير ما يكون فيه وهو يتابع التباري الشرس الذي يخوضُه أهل الحكم في كلّ من الجزائر والمغرب، في سباق تسلّحٍ ملحوظ (لا مبالغة)، من عناوينه شراء الطائرات المقاتلة المتطوّرة، ففيما تحاول الجزائر أن تكون سبّاقةً في اقتناء طائرات سوخوي 57 الروسية، بعدما اشترت 12 طائرة سوخوي 32، تعمل الرباط لاقتناء نظام الدفاع الجوي، باتريوت الأميركي، الذي يشمل نظام صواريخ أرض جو. وتخطّط لامتلاك 48 طائرة من طراز إف. 16، تكون مجهّزةً برادارات من الجيل الخامس، عدا عن 36 طائرة أباتشي. وهذه نتفٌ موجزةٌ من كثير معلومٍ وآخر غير معلوم. ولا يضيفُ إلى الطنبور وترا من يجزم أن أبرز بواعث هذا التباري في التسلّح تدهور الثقة المطّرد بين البلدين، سيما وأن مسار انحدارها وصل، منذ 14 أغسطس/ آب الماضي، إلى مدىً فادح، بعد إعلان الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، ثم وقف الرحلات الجوية المتبادلة (الحدود البرّية مغلقة منذ 1994). وهذا من نواتج ما يتوطّن في أخيلة النخب الأمنية والسياسية والاستخبارية الحاكمة في البلدين الجارين، منذ حرب الرمال في 1963 ربما، من نزوعاتٍ عدائيةٍ تكرّسها سياساتٌ تستثمر مشاعر ضاغطة، لا تتحسّس غير مؤامراتٍ متبادلةٍ دائمة، ماثلة أو متخيّلة.
وإذا حقّ لمواطنٍ عربيٍّ أن يدسّ أنفه في هذا الشأن، فإنّه، على الأرجح، سيميل إلى حسبان رفض الرئاسة الجزائرية أي وساطةٍ عربيةٍ (خليجية) في الخلاف الحادّ، وكذا رفض طرحه في أيٍّ من اجتماعات وزراء الخارجية العرب الدورية، بمثابة إنهاكٍ للاعبين في مباراة كرة القدم، وإجهادهم في ركلاتٍ ورمياتٍ في الهواء وكيفما اتفق. وللناظر في مشهد التباري الجزائري المغربي المديد أن يرى الذي تحدَّث فيه مندوب الرباط في الأمم المتحدة، في يوليو/ تموز الماضي، عن "حق تقرير المصير لشعب القبائل الشجاع" كما تدافعٍ متعمّدٍ في ملعب الكرة المستديرة الأخضر، يستحقّ بطاقةً صفراء (لقائل أن يرى الأدعى أن تكون حمراء). وقولٌ مستحقٌّ إنّ الجزائر، في دعمها غير المحدود الجبهة الانفصالية، وتبنّيها أطروحة ما تسمّى الجمهورية الصحراوية، ورفضها مبادراتٍ مغربيةً لم تتوقف لحلّ هذا الإشكال الصعب والمديد، كانت موضع انتقاد، ولم ينتصر لمنظورها أحد، ما يجعلها، وهي في هذا المطرح من زوايا اللعب مع المغرب، تُواجَه بالبطاقة الصفراء المعلومة.
يقع الباحث في منعرجات العلاقات المغربية الجزائرية المتقلّبة، الباردة أطواراً، والمتوترة أحياناً، وغير الودودة دائماً، وفي أرشيف 58 عاماً، الكثير مما لا يسرّ البال، إذ ظلّ التباري دائماً مطبوعا بالتشنّج والانفعال، والتسلّح بكلّ أسباب التأزيم، ما سوّغ رفع البطاقات الحمراء والصفراء للطرفين في غير واقعةٍ ومسألة .. لكنّ البديهي الذي أكّدته سهرية المباراة في كأس العرب، أول من أمس، هي وجهة البوصلة وليس غيرها.