المغرب وفرنسا ... العلاقات الحرجة
تعيش العلاقات المغربية الفرنسية حالة من التدهور منذ أكثر من عام، بدأت صامتة وأخيرا تحوّلت إلى حملات صحافية عنيفة، تقودها وسائل الإعلام في البلدين. تتهم المغربية منها الساسة الفرنسيين بالوقوف وراء القرارات المناهضة للمغرب في البرلمان الأوروبي الذي دان المغرب في مجال حقوق الإنسان، واتهمه بالوقوف وراء فضيحة الفساد التي هزّت المؤسسة التشريعية الأوروبية، الأمر الذي أزعج الرباط، وأثار قلقها ضد البرلمانيين الأوروبيين الفرنسيين، خصوصا الذين تعودت وقوفهم إلى جانبها. ويتهم الإعلام الفرنسي الرباط بممارسة سياسة الابتزاز للضغط على باريس في مواضيع حسّاسة، مثل موضوع الهجرة وتصدير القنّب الهندي الذي يعتبر المغرب أكبر منتج له في العالم وفي مجال التعاون الأمني، بدعوى أن المغرب يملك شبكة أمنية نافذة داخل الجالية المغاربية على التراب الفرنسي.
وفيما ينفي المسؤولون الرسميون الفرنسيون وجود أزمة بين البلدين، ويمدّون أيديهم لنظرائهم المغاربة، وفي مقدمهم الرئيس الفرنسي، ماكرون، الذي سبق له أن أعلن، من جانب واحد، رغبته في زيارة المغرب، لكنه لم يتلقّ أي رد إيجابي من الرباط على زيارته التي يقول قصر الإليزيه إنها ما زالت مبرمجة، رغم أنها معلقة وموعدها موضع تساؤل كبير، فإن الأجواء في الرباط ليست على الموجة نفسها، لأن في ترك منصب سفارة المغرب في باريس شاغرا رسالة واضحة إلى الدبلوماسية الفرنسية، رغم رفعها أخيرا القيود عن التأشيرات الممنوحة للمغاربة، وزيارة وزيرة الخارجية، كاترين كولونا، الرباط في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لاسترضاء المغاربة، فالمسؤولون المغاربة ما زالوا يصرّون على تحميل نظرائهم الفرنسيين مسؤولية تدهور العلاقات، وتتهم الطبقة السياسية المغربية ووسائل الإعلام المقرّبة من السلطة فرنسا بالوقوف وراء كل المشكلات التي تعرفها بلادهم، فيما يلتزم القصر المغربي صمتا مطمئنا، رغم تلميح الملك محمد السادس، في أحد خطاباته النادرة، إلى ضبابية الموقف الفرنسي بخصوص قضية الصحراء التي أصبحت بمثابة عقيدة وطنية لدى فئات واسعة من الشعب المغربي، يبني عليها النظام قراراته الاستراتيجية في علاقاته الدولية، وتضعها الدبلوماسية المغربية أساس عملها وتحرّكها اليومي.
فرنسا ما زالت تعدّ أكبر مساند للموقف المغربي داخل مجلس الأمن
رسميا، يعزو المسؤولون المغاربة الأزمة الحالية إلى عدة مواقف رسمية تتمثل في مقاربة باريس موضوع هجرة القاصرين المغاربة الذين تقول باريس إن الرباط ترفض استعادتهم بدعوى صعوبة التأكد من هوياتهم، كونهم لا يحملون أية وثائق تثبت جنسيتهم. كما يؤاخذ المغاربة باريس على عدم دعمها العلني والرسمي للمبادرة المغربية لحل قضية الصحراء، رغم أن فرنسا ما زالت تعدّ أكبر مساند للموقف المغربي داخل مجلس الأمن. وأخيرا تحسّ الطبقة السياسية في الرباط بخيبة أمل كبيرة من نظرائهم الفرنسيين على إثر تصويتهم أخيرا داخل البرلمان الأوروبي على توصيةٍ تدين المغرب. كما ينظر المسؤولون المغاربة بغير قليلٍ من اللامبالاة إلى التقارب الذي يديره ماكرون مع الجزائر في محاولة لإقامة توازن لعلاقات بلاده بين الدولتين المغاربيتين الغريمتين.
ومن الجانب الفرنسي، ما زال المسؤولون هناك لم يستوعبوا الادعاءات بتجسّس الأجهزة المغربية على كبار المسؤولين الفرنسيين، بما في ذلك الرئيس، وتوفّر الرباط على شبكة علاقات نافذة ومؤثرة تخترق الطبقة السياسية الفرنسية. كما تنظر باريس بكثير من الحذر والقلق، في الآن نفسه، إلى فتح الرباط أبوابها لإسرائيل، وإلى التقارب المتسارع بينهما الذي تخشى باريس أبعاده الإستراتيجية على وجودها ومصالحها في غرب أفريقيا.
تربط فرنسا والمغرب علاقات صداقة عميقة وطويلة، امتدت منذ فترة الحماية الفرنسية في المغرب، ومستمرّة، ما يجعل طبيعة هذه العلاقات معقّدة
وللتذكير فقط، ليست هذه أسوأ مرحلة تمر بها العلاقات بين البلدين التي سبق لها أن شهدت أزماتٍ عاصفة في السابق، لكنها لم تزعزع أسسها الراسخة، ففي ستينيات القرن الماضي شهدت علاقاتهما أصعب أزمة بينهما، عندما استدعت باريس سفيرها في الرباط احتجاجا على اختطاف المعارض المغربي اليساري البارز، المهدي بن بركة من داخل أحد مقاهي باريس، واختفاء مصيره. وفي التسعينيات، حرّضت الرباط رسميا مواطنيها على شن حملة إعلامية هوجاء ضد باريس، عبر رسائل شخصية مرسلة مباشرة إلى قصر الإليزيه للاحتجاج على صدور كتاب "صديقنا الملك" للصحافي الفرنسي جيل بيرو الذي فضح فيه بشاعة السجون السرّية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
وإذا كانت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تبدو اليوم متشنّجة، فإن الحقائق على الأرض ليست بالحدّة نفسها التي ترسمها الحملات الإعلامية بين البلدين، ففرنسا ما زالت الشريك الأول الاقتصادي للمغرب، تتصدر شركاتها الاستثمارات الأجنبية في المغرب، وما زالت لغتها الفرنسية أساسية في تدبير الشأن الإداري اليومي داخل المؤسسات الرسمية المغربية، وتعتبر أرضها الوجهة الأولى للمغاربة الراغبين في السفر أو الدراسة في الخارج، بينما تقيم على أرضها أكبر جالية مغربية في العالم. وبعيدا عن التشنّجات السياسية بين الفينة والأخرى، تربط الدولتين علاقات صداقة عميقة وطويلة، امتدت منذ فترة الحماية الفرنسية في المغرب، ومستمرّة، ما يجعل طبيعة هذه العلاقات معقّدة يتداخل فيها التاريخي والسياسي والاقتصادي والثقافي والإنساني، والحديث عنها محرج، لأن ما يتحكّم فيها هو المزاج العام داخل القصر الملكي في الرباط وقصر الإليزيه في باريس. وإذا كان هذا المزاج خاضعا لكيمياء خاصة، هو مزيج من الحساسيات الشخصية والتعقيدات الخاصة التي لا نملك كل معطياتها، وتستعصي عن كل تحليل سياسي، فإنه هو نفسه ما يجعلها ذات طبيعة استثنائية قادرة على عودتها إلى وضعها الطبيعي في أية لحظة، بالرغم من حدّة اللغة والعداء في الحملات الإعلامية التي يقودها وكلاء الطرفين في الإعلام وداخل الطبقتين السياسيتين في البلدين.