المنجرفون وراء السراب الأميركي فلسطينياً وعربياً
لا تكلّ الولايات المتحدة ولا تملّ في كل مرة يتفجر فيها عنف في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من عزف سيمفونيتها الممجوجة أن "تهيئة الظروف لتحقيق سلام وأمن دائمين ومستدامين" يتطلب تحقيق حلّ الدولتين، فلسطينية ويهودية. "لا تزال الولايات المتحدة تعتقد أن أفضل مسار قابل للتطبيق - بل المسار الوحيد - هو من خلال حل الدولتين. هذا هو الضامن الوحيد لإسرائيل آمنة ويهودية وديمقراطية. وهو الضامن الوحيد لحصول الفلسطينيين على حقّهم المشروع في العيش في دولة خاصة بهم، والتمتع بتدابير متساوية من الأمن والحرية والفرص والكرامة. إنها الطريقة الوحيدة لإنهاء دائرة العنف مرة واحدة وإلى الأبد". كان هذا ما قاله وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في المؤتمر الصحافي الذي عقده في تل أبيب، الأسبوع الماضي، عقب اجتماعه بالمجلس الوزاري الحربي الإسرائيلي في خضم العدوان الوحشي على قطاع غزّة. لكن، إذا كان في التاريخ من عبرة، فإن واشنطن ما فتئت، أكثر من ثلاثين سنة، تحت إدارات جمهورية وديمقراطية متعاقبة، تمنّي الفلسطينيين والعرب بـ"المسار الوحيد القابل للتطبيق"، ولكنه لا يأتي أبداً. وبغض النظر عما إذا كان هذا في سياق التزييف الذاتي المقصود، أم أنه مترتّب على الضعف الأميركي الفاضح في الضغط على إسرائيل التي لا تستطيع أن تحافظ على استمرارية وجودها من دون دعم واشنطن، فالنتيجة واحدة. المشكلة، أن بين الفلسطينيين والعرب من لا زال يتظاهر بتصديق الأميركيين، أو أنه متواطئ في هذه الكذبة.
بعد أسابيع قليلة من عملية "عاصفة الصحراء" التي شنتها الولايات المتحدة مدعومة بحلف عسكري واسع ضد العراق لإنهاء احتلاله الكويت، أعلن جورج بوش الأب أمام الكونغرس، في الثالث من مارس/ آذار 1991، أنه لا بد من "خلق فرصة للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط". وأضاف إن "تسوية سلمية شاملة يجب أن تقوم على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338، ومبدأ الأرض مقابل السلام. هذا المبدأ ينبغي أن يوفر الأمن والاعتراف لإسرائيل، وفي الوقت نفسه، أن يوفر الحقوق الفلسطينية السياسية المشروعة". مباشرة بعد ذلك، بدأت التحضيرات لمؤتمر مدريد للسلام، والتي انطلقت عملياً، بعد بعض تعثر، في الثلاثين من أكتوبر / تشرين الأول 1991، برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والأمم المتحدة. تمثل أحد أسباب التعثّر والتأخير في إطلاق المؤتمر حينئذ في الشروط الكثيرة التي وضعتها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إسحاق شامير، وفي مقدمها إصرارها على ألا تؤدّي المفاوضات إلى قيام دولة فلسطينية، وهو الأمر الذي قبلته إدارة بوش. وحتى تضمن الولايات المتحدة مشاركة الفلسطينيين عبر وفد أردني/ فلسطيني مشترك، أرسل وزير الخارجية الأميركي حينئذ، جيمس بيكر، في الثامن عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 1991، رسالة تطميناتٍ إلى القيادة الفلسطينية، وفيها "إن هذه التطمينات منسجمة مع سياسة الولايات المتحدة ولا تقوض أو تناقض قراري مجلس الأمن 242 و338".
مضى أكثر من 32 سنة عجاف على رسالة التطمينات تلك، وأكثر من 30 سنة على اتفاق أوسلو، ولمّا تقم الدولة الفلسطينية العتيدة بعد، وذلك على الرغم من وعود من إدارات بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، وحتى دونالد ترامب، وصولاً إلى إدارة جو بايدن. إنه السراب البِقِيعَةِ الذي يوعد به الفلسطينيون الظمآنون فإذا ما جاؤوه لم يجدوه شيئاً. وفي الأثناء، تمضي إسرائيل في تهويد الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، تنقصها من أطرافها ووسطها بمستوطناتها وطرقها الالتفافية و"المناطق الخضراء" والأمنية... إلخ، ولا تفعل واشنطن شيئاً حيال ذلك غير التنديد اللطيف، أو غضّ الطرف، أو حتى المباركة كما فعلت إدارة ترامب. ثمَّ كان أن اجترح ترامب معادلة جديدة، مفادها بأن إقامة علاقات دبلوماسية بين دول عربية وإسرائيل لا ينبغي أن تخضع لمسار التفاوض الفلسطيني – الإسرائيلي، كما تطالب القيادة الفلسطينية الرسمية. وعوض ذلك، دائماً ما تحدّث ترامب، ومستشاره، جاريد كوشنر، الذي كان مكلفاً بالإشراف على ملف السلام بالشرق الأوسط، عن ضرورة أن يسعى العرب والإسرائيليون إلى إقامة شراكات اقتصادية، وأخرى أمنية، للتصدّي لإيران و"القوى الأصولية المتطرّفة" في المنطقة، وبعد ذلك يتمُّ النظر في المسألة الفلسطينية، التي تخيّلوا الحلَّ فيها على شكل تحسينات اقتصادية.
لن تجد إسرائيل يوماً السلام والأمان في المنطقة، حتى يحقق الفلسطينيون كل حقوقهم الثابتة وغير القابلة للتصرّف أو الإلغاء أو الانتقاص
لم يتأخر بعض العرب عن مباركة مقاربة ترامب هذه، رغم أنه كان اعترف بالقدس الموحّدة عاصمة لإسرائيل أواخر عام 2017، فكان أن وقعت الإمارات والبحرين "الاتفاق الإبراهيمي" مع الدولة العبرية عام 2020، ولحق بهما المغرب وأعرب حكام السودان عن نيتهم الالتحاق بالقافلة، من دون أن يتضمّن ذلك قيام دولة فلسطينية، كما يقضي القراران الأمميان 242 و338، وكذلك "المبادرة العربية" التي تبنّتها القمّة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002. حينها كان بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الدولة العبرية، ولم يتردّد أن يقول بكل صلافة إن الوضع الجديد يتعارض كلياً "مع الاعتقاد الذي كان يقول حتى قبل أيام معدودة بعدم وجود أي دولة عربية توافق على إقامة سلام رسمي ومفتوح مع إسرائيل قبل حلّ النزاع مع الفلسطينيين". وقال في تصريح آخر، محيلاً إلى حقيقة أن حلَّ القضية الفلسطينية لم يعُد شرطاً عربياً لإقامة علاقات مع إسرائيل، "من كان يحلم يوماً بوجود اتفاق سلام مع دولة عربية من دون عودتنا إلى حدود عام 1967". بل إن مساعد وزير الخارجية الإماراتي للشؤون الخارجية والثقافة والدبلوماسية العامة، حينها، عمر غباش، لم يتردّد هو الآخر بتأكيد ذلك في سياق رده على الانتقادات الفلسطينية للاتفاق بين بلاده وإسرائيل، إذ قال: إن "الإمارات دولة مستقلة وليس الفلسطينيون من يحدّد لها طبيعة علاقتها بإسرائيل".
ثمَّ جاء بايدن إلى الرئاسة، واستبشرت القيادة الرسمية الفلسطينية بالقادم الجديد الذي ينتمي إلى التفكير الأميركي التقليدي في العقود الثلاثة الأخيرة، القائل إن حلّ الدولتين هو الوحيد العملي والواقعي. إلا أنه، وكما العادة، "صدم" الطرف الفلسطيني الرسمي بأن إدارة بايدن لا تقوم بما يلزم من ضغط على الحكومات الإسرائيلية لتحقيق ذلك، رغم أن مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، كانت قالتها بالفم الملآن إن إدارة بايدن لا تملك خطّة لطرحها على الفلسطينيين والإسرائيليين، ذلك أن "الظروف" السياسية السائدة "غير موجودة على الإطلاق" لإجراء محادثات فعلية بين الطرفين. أبعد من ذلك، تبنّت إدارة بايدن مقاربة إدارة ترامب والرؤية التي يروّجها نتنياهو أن حلاً إقليمياً أوسع سيكون مقدّمة لحلٍّ على الجبهة الفلسطينية - الإسرائيلية. ومن هنا، وخلال لقائه مع نتنياهو في نيويورك في سبتمبر/ أيلول الماضي، قال بايدن إن "بناء شرق أوسط أكثر استقراراً وازدهاراً .. بما في ذلك (إنجاز) الممر الاقتصادي الهندي- الشرق أوسطي - الأوروبي" يرتبط إلى حد كبير، بالتوصل إلى اتفاقات سلام بين إسرائيل وجيرانها في المنطقة، وتحديداً مع السعودية"، وهو الأمر الذي عدّه بايدن "صفقة كبيرة".
في خضم جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة، يعود الأميركيون إلى الكذب على الفلسطينيين، يمنّونهم بدولة موعودة، أو سراب دولة
طبعاً، رحّب نتنياهو بهذا المنطق الأميركي المنحاز، إذ قال إن هناك من يعتقد إن "عليك أولاً إنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ثم الانتقال إلى العالم العربي، وهو ما يسمّى النهج من الداخل إلى الخارج. أعتقد أن النهج من الخارج إلى الداخل هو الذي لديه فرصة أكبر بكثير لإنهاء مجموعتيّ الصراع، وأن صنع السلام مع المملكة العربية السعودية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي سينهي أيضاً الصراع الفلسطيني الإسرائيلي". وللأسف، كانت المملكة قبلت بهذه المقاربة مقابل "تحسيناتٍ" في حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، كمنحهم قدراً أكبر من الحكم الذاتي، ونقل مزيد من الصلاحيات والأراضي المأهولة بالسكّان للسلطة الفلسطينية، وكبح المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية بشكلٍ يمكن التحقق منه، وتحسين ظروف المعيشة والسفر للفلسطينيين، والحفاظ على الأسس التي تُفضي، في المحصلة، إلى دولة فلسطينية. وهي الأمور التي رفضتها حكومة نتنياهو، من دون أن يؤثر ذلك، حينها على فرص التطبيع بين البلدين، إذ كان للرياض مطالب أخرى تتعلق بمصالحها دولةً، وهي ما كانت تهمّها بالدرجة الأولى.
اليوم، وفي خضم جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة، يعود الأميركيون إلى الكذب على الفلسطينيين، يمنّونهم بدولة موعودة، أو سراب دولة، فالانتخابات الرئاسية الأميركية على بعد عام، وإسرائيل ليست في وارد التنازل في هذا السياق، ولو شكلياً، في حين تؤكد تقارير أن الرياض لا زالت مهتمّة بتطبيع العلاقات مع تل أبيب من دون أدنى اعتبار لما ترتكبه من فظاعات في غزّة. ورغم ذلك كله، وكما جاء في تقرير لرويترز، أبدى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عبّاس، خلال لقائه بلينكن الأسبوع الماضي في رام الله، استعداده "للمساعدة في إدارة قطاع غزّة" بعد "عزل" حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هناك. في هذا السياق، ثمَّة ثلاثة أمور لا يبدو أن أحداً يريد أن يعترف بها. أولاً، لن يكون هناك سلام في المنطقة من دون معالجة الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني ابتداء، والوضع القائم في غزّة اليوم دليل لا تخطئه عين. الثاني، إسرائيل لا يمكن أن تقبل بـ"سلام عادل وشامل" مع الفلسطينيين. الثالث، لا يمكن أن تكون أميركا وسيطاً نزيهاً في الصراع العربي الإسرائيلي. لكن ترى من يفهم فلسطينياً وعربياً، بل حتى أميركياً وإسرائيلياً؟ حتى ذلك الحين، ستستمرّ القلاقل في المنطقة، وسيبقى الفلسطينيون يعانون، لكن إسرائيل لن تجد يوماً السلام والأمان في المنطقة، حتى يحقق الفلسطينيون كل حقوقهم الثابتة وغير القابلة للتصرّف أو الإلغاء أو الانتقاص.