المهمة المستحيلة لإنقاذ لبنان
شعوران سيطرا على اللبنانيين بعد الإعلان عن تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة: الترقب والقلق الشديد. يأتي هذا التكليف بعد قرابة العام على تقديم الحريري استقالته من الحكومة، نزولاً عند مطالب الجماهير اللبنانية التي تظاهرت في الشوارع في 17 أكتوبر تشرين الأول العام الماضي، تندد بفساد المنظومة الحاكمة وتطالب بمحاسبتها. منذ ذلك الحين، شهد لبنان تطورات دراماتيكية كبرت يوماً بعد يوم مثل كرة الثلج، وكانت مزيجاً من أزمة سياسية ومالية مصرفية - اقتصادية، وأزمة صحية، فاقمها بصورة كبيرة الانفجار في مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الماضي.
ما يمر به لبنان هو عملية تفكك شاملة لبنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث يبدو من الصعب على أحدٍ في داخل لبنان، أو في خارجه، وقف السير الحثيث لهذا البلد نحو نهايته المحتومة دولة قادرة على تحمل مسؤولية تأمين العيش الكريم لمواطنيها.
ما يمر به لبنان هو عملية تفكك شاملة لبنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
تعمّق، خلال العام الماضي الشرخ بين الطبقة السياسية الحاكمة وكل طبقات المجتمع. فالسياسيون في لبنان، على الرغم من كل المآسي والكوارث التي تحدق باللبنانيين، من كل حدب وصوب، لم يغيروا قيد أنملة من سلوكهم السياسي القائم على المهاترات والكيدية السياسية، والتناحر الشخصي، وشحذ العصب الطائفي وتقاذف الاتهامات. في الأيام الماضية، برز هذا السلوك جلياً في الكلمة التي وجهها الرئيس ميشال عون، عشية البدء بالاستشارات النيابية الملزمة، إلى اللبنانيين وتوجه فيها إلى النواب، والتي أشاعت جواً من التشاؤم واليأس، بشان إمكانية توصل العهد إلى التفاهم مع الحريري على تشكيل حكومة مهمة من اختصاصيين، إذا أدت الاستشارات إلى تسميته. كذلك برز أيضاً في الاستشارات نفسها التي أدّت إلى تكليف الحريري بتأييد أصوات محدودة من النواب المسيحيين، جرّاء رفض الكتلتين الكبيرتين اللتين تمثلانهم؛ كتلة التيار الوطني، بسبب خلاف زعيم التيار، جبران باسيل صهر الرئيس، مع الحريري، وأيضاً بسبب رفض حزب القوات اللبنانية تسمية الحريري، بسبب الخلافات وعدم الثقة بين زعيم الحزب سمير جعجع مع حليفه السابق سعد الحريري، وشكوك "القوات" في حصولها على دعم الحريري لترشيح جعجع لرئاسة الجمهورية بعد عامين.
الانهيار المتسارع الذي يعيش اللبنانيون على وقعه بدلاً من أن يوحّدهم شرذمهم وقسمهم إلى ثلاثة أنواع من الجماهير
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأحداث المأساوية والانهيار المتسارع الذي يعيش اللبنانيون على وقعه بدلاً من أن يوحّداهم شرذماهم وقسماهم إلى ثلاثة أنواع من الجماهير. هناك جمهور الأحزاب السياسية الحاكمة التي، على الرغم من كل المعاناة، ما يزال يدين بالولاء لزعيم الحزب والطائفة، ولا يتقبل أي محاسبة أو انتقاد له؛ وهناك جمهور ثورة 17 تشرين الذي تحول إلى "جماهير"، وجماعات لم تنجح في إيجاد إطار جامع لها وشعارات ممكنة التحقيق، ما أدّى إلى ضمورها وتراجعها. إلى جانب أساليب القمع الممنهج الذي مارسته السلطة ضدها، وطغيان الشغب والعنف عليها، ما دفع كثيرين إلى عدم المشاركة فيها، وجاءت جائحة كورونا لتوجه إليها ضربة قاصمة.
في مقابل هذين الجمهورين، هناك الأغلبية الساحقة من اللبنانيين الذين بات 55% منهم اليوم تحت خط الفقر. ويشعر هؤلاء أنهم في خضم بحر هائج من الهموم، متروكين لمواجهة مصيرهم بأنفسهم في أجواء من الفقر والبطالة واليأس وانسداد الأفق.
اللبنانيون اليوم أمام المعادلة التالية: لا مجال لإنقاذهم من "جحيم" الانهيار من دون مساعدات دولية، ولا مساعدات دولية من دون إصلاحات جذرية، ولا إصلاحات من دون حكومة غير سياسية من الاختصاصيين، وهذه هي المهمة المستحيلة التي انتدب سعد الحريري نفسه لها، حاملاً شعارين واضحين لحكومته المقبلة: وقف الانهيار وإعمار ما تدمر من مدينة بيروت.
تدل المؤشرات على أن الأحزاب التي تقبض على زمام الحكم لن تقبل بالتنحي جانباً، والإفساح في المجال لتشكيل حكومةٍ من خارجها.
تدلّّ كل المؤشرات على أن الأحزاب التي تقبض على زمام الحكم لن تقبل بالتنحي جانباً، والإفساح في المجال لتشكيل حكومةٍ من خارجها. المواقف والتصريحات التي سمعناها منها أخيراً تدل على أنه لا يهمها تأخر مجيء المساعدات الدولية، ولا يقلقها رعب المواطنين من أن يستفيقوا يوماً ليجدوا أنفسهم خسروا كل مقومات العيش الكريم، كل ما يهمها هو الحفاظ على مكاسبها الحالية والمستقبلية، وكسر الخصم وعدم التنازل له.
لن يكون خراب لبنان، مع الأسف، على أيدي العدو الإسرائيلي الذي هدّد، أكثر من مرة، بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، بل سيكون على أيدي زعمائه السياسيين الحاليين، إذا لم يتخلوا عن أنانياتهم، ولم يترفعوا عن مصالحهم الضيقة قبل فوات الأوان.