الموت ... ذلك العدل الأخير
تنقص موازين العدل أو تجور، على الأرض مع اختلاف الأسباب، في كلّ شبر من أرض الله، إلّا أنّ خاتمته في كلّ حال تأتي دائماً كي تكتمل الموازين، ولو على سبيل المعنى فقط، معنى العيش على أرض الكوكب، ونظلّ نحدّق في ذلك المعنى من بعيد، ونتأمل النهايات ونتساءل: لماذا تأخّر العدل كثيراً حتى جاء في تلك الساعة فقط؟ أو لماذا جاء مبكّراً ومباغتاً فوق رؤوس أناسٍ لم تحدُث منهم أيّ مظلمة لطير أو لإنس؟
وفي كلّ مرّة نحتار في كيفية تأمل زاوية عدله، لا مع الخضر وموسى فقط، بل مع أيّ خضر وأيّ موسى آخر لم يكن له أي صلةٍ بالسماء، وحتى مع أناسٍ بسطاء لم يدخلوا أي معركةٍ أو غزوة، ولم يركبوا فوق خشب أي سفينةٍ أو يخرقوا خشبها كي تغرق في البحر عمداً، ولا تنطّعوا قط بفضيلة أو بطولة أو معجزة، وجاء موتهم هادئاً وبسيطاً بجوار جُرن قمح أو فول، أو فوق أكوام السماد البلدي، أو فوق مصاطبهم الطينية بجوار برّاد الشاي، موت هادئ جداً على قدر أرزاقهم وخيالاتهم وعذوبتهم فوق تراب الكوكب، لا انضمّوا إلى جيوش متحاربة، ولا صنعوا البارود للظلم ولا حرقوا الزرع أبداً.
الموت: ذلك العدل الأخير فوق تراب الكوكب، ويطلّ كلّ آن بحكمةٍ من السماء، كي يشفي القلوب التي نالت أقساطاً مضاعفة من الظلم نظير استقامتها، أو نظير أنها طالبت بحريةٍ أو حقّها في العيش والحياة، هل في تأخّر الموت حكمةٌ ما، حكمةٌ سائلةٌ ورجراجة فوق الأرض، كي تحير الألباب وكي تزداد مساحة الأسئلة والفلسفات، ويضرب كلّ واحد بسهمه في النظر وتأمّل تلك الموازين، ويكبر أيضاً ظلّ الأذى في مساحة العالم، وتصنع أيضا الأفلام الباحثة عن محبة متعثرة في نهاية كلّ قرن، وعن ضوءٍ شحيح في أيّ نفق، رغم كثرة الأنفاق وكثرة ظلماتها وظلمها.
ما سرّ تأخير هذا البريق الذي يشفي ويرضي من طاوله الألم بلا جريرة؟ نعرف جميعاً أنّ الأكوان كلها تنتهي، في النهاية، إلى كومة من ترابٍ جرّاء حرب طاحنة أو زلزال ما، كما رأينا قريباً، أو خراب بفعل جنون جنرالات في أيديهم المتعطّلة ما يكفي لابتلاع ما شيّدته السواعد البسيطة التي اشتاقت وعرقت وصبرت، وقالت الغناء صافياً في زرعها وحصادها، ونشرت الظرف والبهجة والمواويل في أثناء الأكل وتناول الشاي وزراعة الصفصاف والنخيل على حوافّ الترع بجوار النعناع والسنط وأصبحت هناك الذكريات مسنودةً بظهرها على الأحلام والحكايات، فكتب الرواة، وحكى الحكّاءون، وكانت الموالد والحضرة والذكر والطهور، حتى جاءت الحرب.
ما سرّ تأخر العدل هكذا، حتى يضيق الناس بالحرب والجنرالات، ويكثر الموت المجّاني في البلدان تحت أسباب واهية وجشع الأغبياء في السلطة، حتى وإن جاء الفرَج في ما بعد، فنالت السماء حقها من القاتل أو الدكتاتور، وأصبح ذكرى يغني لها الأطفال من تحت حوائط القلعة في الأعياد والأعراس، من ذلك الذي يشفي القلب، من هناك، إن كثرت الأهوال وقلّت الثقة في القلوب، أو ركب الظلم صولجان خيله ورقص مسروراً فوق ذهب المعزّ وأكوام كرمه المفتعل؟ الرصاص هناك بالزكائب يسدّ أبواب المحاكم سدّا كي يزرع الخوف في العيون، في كلّ عين، حتى عين القضاء، حتى مقاعد الدرس، حتى حدائق الأطفال، حتى استديوهات الإذاعة، حتى كاميرات المؤتمرات المزدانة بمدافع النصر، حتى حوافّ البحار والموانئ، حتى مكاتب الجمارك، حتى دفاتر الحضور والانصراف في المدارس، حتى أقسام الاستقبال في المستشفيات والطب الشرعي، حتى غيطان الفلاحين، وأحواض النعناع، حتى أجران القمح، حتى دكاكين بيع الفول والطعميّة والمخابز والدقيق، حتى لجان الثانوية العامة، حتى لجان ترقيات الأساتذة في الجامعات، حتى قسم تزويد المكتبات بالكتب، حتى المناهج الدراسية، حتى كرّاسات الأطفال، حتى دواوين الشعراء بعدما صمتوا وعدّدوا مناقب الحكّام على سبح الأوزان والقوافي، وانتظروا أمرأ القيس خارجاً من القصر الجمهوري فوق فرس، وتحت مؤخرته الأعطيّة أو الوظيفة أو تذكرة السفر إلى المهرجان مشبوكة بلجام الفرس إلى بابل أو مكتبة الإسكندرية أو نيويورك أو باريس، بعد ما كتب اسمه واضحاً في أوتوغراف الشرف بماء الذهب.