النظام الإيراني .. انتخابات رئاسية وشرعية متآكلة
صوّت في الانتخابات الرئاسية الإيرانية في العام 2017 حوالي 73% من مجموع الناخبين المسجّلين، عَوَّلَ غالبيتُهم على الرئيس حسن روحاني، وفريقِه من الإصلاحيين، أصحاب الإنجاز النووي لعام 2015، لتحقيق مزيدٍ من الانفراج في علاقات إيران مع اللاعبين الأساسيين في الساحة الدولية. وبالتالي، إنقاذ الاقتصاد الإيراني المتعثّر. جاذبية الإصلاحيين، بقيادة روحاني، سرعان ما تآكلت بعد فشلهم في الوفاء بوعودهم الاقتصادية، وزاد الطين بلّة انسحاب إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في عام 2018، من الاتفاق النووي، واتّباعه سياسة "الضغوط القصوى" بإعادة فرض عقوباتٍ أكثر تشدّداً على طهران. وبعد القمع العنيف لتظاهرات 2018 - 2019، بات نصف الإيرانيين، وفقاً لاستطلاعات رأيٍ، مستائين من سياسات روحاني، ما عزّز قبضة المحافظين على مفاصل السلطة. الفروق بين محافظين وإصلاحيين في إيران ليست أيديولوجية، فالطرفان يؤمنان بمبادئ "الثورة الإسلامية" وبضرورة تمدّد تلك "الثورة" خارج الحدود الإيرانية، وبمبادئ الدستور، خصوصاً ما يتعلّق منها بـ"ولاية الفقيه"، إلّا أنّ الإصلاحيين يريدون انفتاحاً أكبر في العلاقات مع الغرب والمنظمات الدولية، ويبدون مرونة أكبر في مفاوضات الملف النووي الإيراني، ويفضّلون تخفيف لهجة العداء لأميركا وإسرائيل، ويشجّعون التقارب مع السعودية. وذلك كله لتحقيق مصالح النظام، وإنقاذ الاقتصاد الإيراني. اليوم، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، المزمع عقدها في 18 من شهر يونيو/ حزيران الجاري، فإنّ هامشاً من الاختيار، منحته للناخب الإيراني هذه الاختلافات الطفيفة، يبدو معدوماً.
إبراهيم رئيسي، المدعوم من المرشد علي خامنئي، المرشّح الأكثر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة
في 25 مايو/ أيار الماضي، أقصى مجلس صيانة الدستور جميع الإصلاحيين البارزين تقريباً عن الترشّح للرئاسة. منهم، إسحاق جهانجيري، نائب الرئيس روحاني، وعلي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق، بأن فرض المجلس المذكور معايير جديدةً ضيّقت حدود أهلية المرشحين، ولقيت اعتراضات محافظين وإصلاحيين، رأوا في فرضها تجاوزاً لصلاحيات المجلس (من هؤلاء حسن روحاني، قبل أن يتراجع ويقدم اعتذاره للمرشد). يتألف مجلس صيانة الدستور من 12 عضواً، ستة منهم يرشّحهم رئيس السلطة القضائية، ويصوّت عليهم البرلمان (مجلس الشورى)، وباقي الأعضاء الستة يعيّنهم المرشد الأعلى. فعلياً، سلطة المجلس أعلى من سلطة البرلمان، لذلك يمتلك القوة السياسية والسلطة النهائية اللازمة لفرض أيّ معايير حتى لو كانت فضفاضة وغير موضوعية، يتم بموجبها مثلاً استبعاد غير المتدينين بما فيه الكفاية، أو أولئك غير الموالين بشكل كافٍ للثورة الإسلامية.
نتيجة لتلك المعايير الجديدة، بات إبراهيم رئيسي، المدعوم من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، المرشّح الأكثر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، متنافساً مع ستة مرشحين آخرين، خمسة منهم محافظون مثله. وكان رئيسي قد خسر أمام روحاني في انتخابات عام 2017، إلّا أنّه حصل على 38% من أصوات الناخبين، على الرغم من ارتباطه في الذاكرة الجمعية الإيرانية بالإعدامات الجماعية عام 1988، بوصفه أحد المسؤولين عنها، والتي تزامنت مع إعلان وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب العراقية - الإيرانية. ازدادت شعبية رئيسي بعدما عيّنه خامنئي رئيساً للسلطة القضائية، وكلّفه بمحاربة الفساد. ومعروفٌ أنّ رئيسي كان أحد طلاب خامنئي، في إحدى مدارس مدينة مشهد التي ينحدر منها كلاهما. وعلى الرغم من وضعه العمامة السوداء، فإنّه ليس من طبقة "آيات الله"، بل من طبقةٍ أدنى في الهرمية الدينية للإسلام الشيعي هي طبقة "حجة الإسلام"، لكنّه مرشّح لأن يخلف خامنئي (82 عاماً ويعاني من المرض) وفي حال فوزه بالرئاسة ستزداد فرصه للوصول إلى هذا منصب المرشد الأعلى (كان خامنئي رئيساً لإيران قبل توليه منصب المرشد الأعلى عام 1989 مع وفاة الخميني)، لكنّ سعي خامنئي إلى إعداد رئيسي للمنصب خلفاً له، لم يكن ليمرّ من دون ثمن.
الدعوات إلى مقاطعة الانتخابات، الصادرة عن مؤسسات وشخصيات سياسية، مستمرة، أما وسم "لا للتصويت" فتصدّر مواقع التواصل الفارسية
على أعتاب الانتخابات الرئاسية المقبلة تُظْهِرُ استطلاعات الرأي استمرار انخفاض نسبة الإقبال على التصويت. واحد منها أجراه مركز استطلاع رأي الطلاب الإيرانيين (ISPA)، شبه الرسمي، بيّنت نتائج المرحلة الثامنة منه (30 مايو/ أيار – 1 يونيو/ حزيران) أنّ نسبة الإقبال على التصويت بلغت 34.1%، بعدما انخفضت في المرحلة السابقة من الاستطلاع نفسه إلى 37.7%. وفي حال تأكد صدق تلك التوقّعات ستكون تلك أقلّ نسبة مشاركة في أيّ انتخابات رئاسية منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. الدعوات إلى مقاطعة الانتخابات، الصادرة عن مؤسسات وشخصيات سياسية، مستمرة، أما وسم "لا للتصويت"، الذي أطلقته أُسَرُ الإيرانيين الذين راح ذووهم ضحايا القضاء وأجهزة الاستخبارات الإيرانية طوال عقود مضت، فتصدّر مواقع التواصل الفارسية. لا يَخْفَى قلق النظام حيال فتور المشاركة الشعبية، إذ اضطرت السلطات الإيرانية إلى تغيير مواعيد ثلاث مناظرات، تصادف وقتها، المقرّر مسبقاً، مع خوض المنتخب الإيراني لكرة القدم مبارياته ضمن تصفيات آسيا المؤهلة لمونديال قطر 2022. يثق الإيرانيون بأعضاء منتخبهم الوطني أكثر من ثقتهم بسياسييهم، وربما يفضّل كثيرون منهم رؤية لاعبي المنتخب يخوضون منافسةً للوصول إلى المونديال على مشاهدة استعراضٍ يتعلق بمنافسة سياسية غير متوازنة، باتت نتائجها محسومة سلفاً. تقليدياً، كان الإقبال على التصويت مقياساً لشرعية النظام الإيراني. وبالتالي شرعية خامنئي نفسه، وكان الاهتمام منصبّاً على المشاركة السياسية أكثر من نتائج الانتخابات. هذه المرّة، لم يستطع النظام الإيراني أن يضمن الأمرين معاً، ولم تنجح محاولات خامنئي المتكرّرة لإقناع الإيرانيين بالإقبال على التصويت، عبر دغدغة شعورهم القومي. حتى إعلانه أنّ ظلماً ارتكب بحق مرشّحين مُستَبعَدين، بدا مناورة مكشوفة طالما لن يؤثر على فرص مرشّحه المفضّل. أخيراً، لجأ خامنئي إلى توظيف الأيديولوجيا مستخدما آلية الفتوى، معلناً أنّ التصويت بورقة بيضاء في الانتخابات "حرام".
بات مزيد من الإيرانيين يدركون أنّ الانتخابات الإيرانية ليست حرّة ونزيهة طالما سيطر مجلس صيانة الدستور على معايير أهلية المرشحين
الأزمة الاقتصادية، والقمع الأمني، وسوء إدارة أزمة كورونا، وعدم الشفافية التي تعاطت من خلالها السلطات الإيرانية مع الشعب في ملفات عديدة، على سبيل المثال: إسقاط الحرس الثوري الطائرة الأوكرانية بالخطأ، والخروق الأمنية الإسرائيلية، وحجم خسائر الهجمات اللازمة عنها. كلّ ما سبق، بالإضافة إلى استبعاد المرشحين بشكل تعسفي، هي أبرز الأسباب الوجيهة لانعدام الثقة بالنظام، وبصناديق الاقتراع. بات مزيد من الإيرانيين يدركون أنّ الانتخابات الإيرانية ليست حرّة ونزيهة طالما سيطر مجلس صيانة الدستور على معايير أهلية المرشّحين، وطالما أراد المرشد الأعلى غير المنتخب فرض مرشّحيه، ويبدو أنّهم سئموا القيود المفروضة على حقوقهم السياسية وحرياتهم، وهم لا يستبعدون تكرار سيناريو عام 2009 حين خرجت تظاهراتٌ عارمة، بعد انتخابات ذلك العام، دافعها الاعتقاد بأنّ خامنئي قد زوّر التصويت ليضمن ولاية ثانية للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وفي حملة قمع وحشية تلت ذلك، قُتل عشرات المتظاهرين على أيدي قوات الأمن ورجال الشرطة، واعتقل الآلاف. الأمور تبدو مهيأة لمزيد من التصعيد والحركات الاحتجاجية، خصوصاً أنّ حملات مقاطعة الانتخابات تبدو فاعلة ومنظمة وهادفة. تظاهرات محتملة لن تعني إلّا مزيداً من تقويض مزاعم النظام بالشرعية.