الهبّة الفلسطينية والحركة الثورية في المنطقة
نشهد في المرحلة الراهنة عديداً من أشكال المقاومة الشعبية داخل البلدات والمدن الفلسطينية، كما يحدث الآن في القدس وحي الشيخ جرّاح. وتعتبر هذه التحرّكات امتداداً كاملاً لمجمل أشكال المقاومة الشعبية التاريخية والراهنة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ النكبة، من أحداث يوم الأرض إلى الانتفاضتين، الأولى والثانية، ما يؤكّد على إصرار الفلسطينيين وعزيمتهم على النضال حتى استعادة كل حقوقهم المستلبة، من دون أن نهمل بعض المتغيرات الحاسمة والمؤثرة على الصعيدين، الذاتي والموضوعي، فمن الناحية الذاتية بات تأثير السلطة السلبي واضحاً للعيان، ما دفع محسوبين عليها من منتسبي حركة "فتح" إلى التعبير عن هذه الأزمة، كما ظهر إلى العلن في أعقاب الإعلان عن العملية الانتخابية منذ بدايات العام الحالي، وهي امتداد لحالة خلافية عميقة داخل الحركة، المعروفة بحزب السلطة قبل هذا التاريخ، وهو ما جاءت عليه مقالة الزميلة لميس أندوني في ملحق فلسطين- العربي الجديد لشهر إبريل/ نيسان، والمعنون "فتح بعد الانتخابات: تفتّت أم تيار تحرّري؟". وفي كلّ الأحوال، سبقت للكاتب ولغيره الإشارة إلى تأثيرات العامل الذاتي السلبية في مناسبات عديدة، ولسبل تجاوز هذا العائق وتمكين مقومات حركة التحرّر الوطنية في أسرع وقت، وبأفضل شكل ممكن.
سبقت موجات المقاومة الشعبية المتلاحقة أخيراً مسارعة بعض أنظمة المنطقة نحو التطبيع مع الدولة الصهيونية، أو نحو مهادنتها، والاعتراف بها بشكل مباشر أو غير مباشر
المتغير الثاني هو التحولات والمتغيرات الإقليمية التي يصعب حصرها في مقالة واحدة، مثل التهافت الرسمي العربي نحو التطبيع، والصراعات السياسية والعسكرية بين دول المنطقة وفي داخلها، وأهمها تصاعد الحركات الثورية والاحتجاجية الشعبية، المعروفة إعلامياً بمصطلح الربيع العربي، إذ تجد في الهبّات الفلسطينية الحاصلة أخيراً نموذجاً حياً من أجل محاكاة (وتقييم) تأثير هذا المتغير الإقليمي على محورية الصراع مع الدولة الصهيونية، وأخلاقيته وأهميته، من ناحية، وعلى دعمه من شعوب ودول المنطقة من ناحية أخرى، فمنذ بدايات الموجة الثورية في المنطقة العربية، ونحن نستمع إلى تحليلاتٍ تناصب حركات المنطقة الاحتجاجية والثورية العداء العلني أو المبطن، باعتبارها انحرافاً عن تناقض المنطقة الرئيسي مع الدولة الصهيونية، وتسويغاً لوجودها، من خلال اتهام الحركات الاحتجاجية بالعمالة الخارجية وزرع الطائفية والانقسام وتحميلها مسؤولية تدمير الدولة والمجتمع، وها قد حانت لحظة الحقيقة، من أجل تبيان صحة هذه الادعاءات من زيفها.
وقد سبقت موجات المقاومة الشعبية المتلاحقة أخيراً مسارعة بعض أنظمة المنطقة نحو التطبيع مع الدولة الصهيونية، أو نحو مهادنتها، والاعتراف بها بشكل مباشر أو غير مباشر، كما في اتفاقيات التطبيع الإماراتية والبحرينية والسودانية والمغربية، وكما في مفاوضات ترسيم الحدود اللبنانية - الصهيونية، وكذلك في العلاقة غير المباشرة عبر الوسيط الروسي بين النظام السوري والدولة الصهيونية. ويظهر من هذه الصورة الشاملة حجم الهرولة الإقليمية الرسمية نحو الدولة الصهيونية، من دون أيّ اعتباراتٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ وحقوقية، وكأنّ الدولة الصهيونية جزءٌ أصيل وثابت من تركيبة المنطقة، بل هناك مؤشّرات موثقة رسمياً تثبت صحة هذه الاستنتاج، مثل الانسياق الرسمي العربي والإقليمي مع الخطوات التطبيعية المتّخذة، خصوصاً إن قارنّا هذه البيانات والمواقف المعلنة مع نظيرتها إبّان توقيع مصر اتفاق كامب ديفيد، إذ لم يجرِ اتخاذ أيّ موقف رسمي عربي تجاه المطبّعين الجدد، كما لم يشن محور الممانعة أيّ هجوم عليهم، بل على العكس نشهد في الفترة الأخيرة تقارباً رسمياً سورياً - إماراتياً معلناً ومتسارعاً!
سياسات النظام الرسمي العربي وتوجهاته الحاصلة اليوم، هي جزء من بنيته الحقيقية التي أنكرها وربما ما زال بعضهم ينكرها
وعليه، نحن أمام صورة فجّة عن حقيقة النظام الرسمي العربي، بما فيها الأنظمة التي تدّعي الممانعة ودعم المقاومة، وهو مرتبط بصورةٍ طرديةٍ مع نجاح النظام الرسمي العربي في قمع الحركة الاحتجاجية والثورية العربية وإفشالها حتى اللحظة، فإذا ما استثنينا التجربة التونسية التي يعتبرها بعضهم النموذج الوحيد على نجاح الحركة الثورية في تشييد دولة المواطنة والديمقراطية؛ على الرغم من تحفظ الكاتب على ذلك؛ نجد أن مجمل الدول التي شهدت حركات ثورية واحتجاجية منذ نهايات الـ2010، قد نجحت أنظمتها بدعم إقليمي ودولي في حماية جوهر النظام أو كامله، من البحرين وسورية واليمن وليبيا، وصولاً إلى مصر والعراق ولبنان والمغرب والجزائر وطبعاً السودان. وهو ما يؤكّد على أنّ سياسات النظام الرسمي العربي وتوجهاته الحاصلة اليوم، هي جزء من بنيته الحقيقية التي أنكرها وربما ما زال بعضهم ينكرها، بل يمكن الذهاب إلى أكثر من ذلك، إلى حد اعتبار أنّ مسار التنازل والاستسلام والتحالف مع الدولة الصهيونية هو جوهر هذه الأنظمة الخفي منذ القدم، وذلك نتيجة خشية النظام الرسمي من ردّ فعل المارد الشعبي، الأمر الذي دفعه اليوم تحديداً، بعد احتفاله بهزيمة الحركة الثورية والاحتجاجية، إلى إظهار حقيقة مواقفه، من دون مساحيق تجميل خادعة، تحت شعارات الممانعة ونصرة الحق. بل، أكثر من ذلك، إذ تجاهل النظام الرسمي العربي اليوم إصدار بيانات التنديد والشجب تجاه الممارسات الصهيونية، أو حتى دعم الحقوق الفلسطينية، لا سيما نظام الأسد الممانع الذي كان قد اتهم الحركة الثورية السورية بالمؤامرة الكونية عليه، وعلى محور المقاومة، خدمة لإسرائيل، وها نحن نشهد حقيقته المتصالحة مع الدولة الصهيونية بشكل متكرّر ودوري.
بات الخوف من المارد الشعبي اليوم مغيّباً، بعد تشريد شعوب المنطقة، وأسر أو قتل ناشطيها السياسيين والإعلاميين
في الختام، لا بدّ من التذكير بأنّ جميع المواقف الرسمية العربية، بما فيها أو ربما في مقدمتها، مواقف نظام الأسد الممانع من الهبّات الشعبية الفلسطينية السابقة، كانت نتيجة ضغط الشارع وخوفاً من خروجه عن سيطرتها، إذ لطالما سارعت الأنظمة إلى استيعاب حجم الغضب الشعبي، عبر إعلان اجتماع طارئ في جامعة الدول العربية، وإطلاق مئات الوعود الكاذبة حول دعم صمود الشعب الفلسطيني مادّياً وإعلامياً وسياسياً، وتحذير الدولة الصهيونية وداعميها الغربيين من مغبة اختبار الصبر العربي، مهدّدين بالتحرّك عسكرياً، من دون تنفيذ أيّ من هذه الأكاذيب سوى إرسال بعض النقود والتبرّعات الشعبية غالباً، أي تلك التي تجبيها الجمعيات والهيئات الناشطة من الشعوب مباشرة فقط. في حين بات الخوف من المارد الشعبي اليوم مغيّباً، بعد تشريد شعوب المنطقة، وأسر أو قتل ناشطيها السياسيين والإعلاميين، بل تقليب الشعوب بعضها على بعض، عبر زرع أكاذيب مضلّلة عن عمالة الحركات الاحتجاجية والثورية العفوية. لذا، علينا أن نعي جيداً أنّ الشعوب الحرّة والمناضلة هي نصيرنا الوحيد. وعليه، فإنّ حريتها وتحرّرها من قيود الاستبداد والتخلف عامل قوة وليس ضعفاً، سوف يؤدي إلى تمكينها من فرض رؤيتها وإرادتها، لا سيما في الصراع الفلسطيني/ العربي، بل والعالمي - الصهيوني.