الهجرة ... أخيرًا في منظار العقل
أخيرا! ثمّة من جاء ليشرح لنا، بشكل دقيق وعلميّ، قضية الهجرة إلى أوروبا وحجمها الفعليّ، بإعطاء أرقام دقيقة وواضحة وتقديم استنتاجات موضوعية. ففي بلد مثل فرنسا، حيث يعلو الضجيج وتروج كلماتٌ يعمّمها اليمينُ المتطرّف من نوع "اجتياح" و"تسونامي" "والاستبدال الكبير"، وحيث بات المواطنُ يصحو وينام على تشريعاتٍ وسنّ قوانين وتحذيرات و"حقائق صادمة" تنبّه إلى خطورة تدفّق المهاجرين (المغاربة والعرب بشكل أساسيّ) وتأثير الأمر سلبيا على طبيعة البلاد الديموغرافية وهويتها الثقافية (خطر الأسلمة)، كان لا بدّ من خروج صوت حياديّ وعلميّ يصحّح المسار ويضع الأمور في نصابها.
في كتابه الذي يحمل عنوان "هجرة: الإنكار الكبير"، الصادر حديثا عن دار لوسوي الفرنسية، يُطلعنا فرانسوا هيران، الأستاذ المحاضر والمسؤول عن كرسي "هجرات ومجتمعات" في "الكوليج دو فرانس"، على نتيجة أبحاثه بوصفه عالم اجتماع ديموغرافي متخصّص في قضايا الهجرة منذ سنوات، عن الواقع الفعلي للهجرة في فرنسا. فعلى عكس المتوقّع، يؤكّد هيران أن أفواج المهاجرين هي إلى ارتفاع بالفعل (لكنه ارتفاعٌ أقلّ ممّا هو في بقية أوروبا)، وذلك منذ العام 2000، وأن إنكار ذلك بمثابة ذرّ رماد في العيون، رابطا الأمر بواقع الهجرة في العالم بشكل عام، حيث هناك انتقال لأعداد هائلة من البشر عبر القارّات، بفعل عوامل عديدة ومختلفة (الحروب، سياسات القمع، التبدّل المناخي، ... إلخ).
اليوم، تعدّ فرنسا نحو سبعة ملايين مهاجر، مقابل 4,5 ملايين في العام 2000، وهو ما يمثّل زيادة بنسبة 53%، ويعادل نسبة 10.3% من مجموع السكّان، في حين يبلغ ازدياد عدد الفرنسيين نسبة 9% لا أكثر. في المقابل، يكذّب هيران القائلين إن فرنسا تتعرّض إلى "تسونامي هجرة"، فهي متأخّرة عن جاراتها في ما يتعلّق بسياسات استقبال المهاجرين، أما ادّعاؤها بأنها كانت وتبقى "أرض لجوء"، ما عاد ذا معنى، بدليل كل العوائق التي تضعها الإدارة بشكل إرادي، لإعاقة طلبات اللجوء وتأخير معالجتها أو تدبير أوراق الإقامة. هنا أيضا يورد هيران حقائق يُرفقها بإحصائيات وأرقام، ففي ما يخصّ هجرة السوريين والعراقيين والأفغان على سبيل المثال، لقد قدّم 18% فقط، من أصل 6,8 ملايين لاجئ سوري، طلبات لجوء إلى أوروبا، قصد 53% منهم ألمانيا، لقاء 3% قدموا إلى فرنسا. وكذلك هي الحال بالنسبة إلى العراقيين الذين لجأ منهم 48 ألفا إلى القارّة العجوز، ما بين عامي 2014 و2020، فقُدّمت نسبة 48% من الطلبات إلى ألمانيا، و8,5 % إلى فرنسا.
هذا ويؤكّد هيران الذي يقدّم نظرة مغايرة إلى واقع المهاجرين في فرنسا أن الهجرة هي لأسباب دراسية واقتصادية في الدرجة الأولى، في حين تعرف الهجرة العائلية للالتحاق بأحد أفراد العائلة تراجعًا ملحوظا، وهو ما يوفّر معطىً جديدا ينبغي بناء سياسة مخالفة عليه بحيث يُكَفّ عن النظر إلى المهاجرين بوصفهم أقلّية تتهدّد الأكثرية ("لن تبقى فرنسا هي فرنسا") والعمل بالأحرى على اندماج المجموعات الأقلوية ضمن الأكثرية، مع إلغاء سياسات التمييز على أنواعها، المباشرة وغير المباشرة، والسعي إلى تجديد معنى أن تكون فرنسيا، فقد أثبتت التجربة أن عملية الانصهار في المجتمع الجديد تبدأ منذ الجيل الثاني، إذ تتطوّر العقليات وتنفتح الأفكار وتتوسّع، "بحيث يكون هدفنا "التجدّد الكبير" وليس "الاستبدال الكبير"".
وللتذكير فقط، 26 ألف ضحية غرقوا في البحر الأبيض المتوسط في الأعوام العشرة الأخيرة. كانوا يسعون وراء رغيف خبز، أو نحو شطآنٍ أكثر أمانا، هذا فيما العالم غارقٌ في هذيانه الذي صوّر له أن جحافل من "البرابرة" قادمةٌ من البحر لتستولي عليه!