الهروب الإسرائيلي من غزّة إلى جنوب لبنان
صعّدت إسرائيل نبرة تهديداتها بضرب حزب الله في جنوب لبنان أخيراً، رغم أنّ حدّة المواجهة بين الطرفَين، ومنذ تسعة أشهر، ظلّت ترقى إلى مستوى حربٍ بقواعد اشتباك منضبطة بين الطرفَين، تتمثّل في تبادل ردّات الفعل، مع شبه تعتيم إعلاميٍّ من الطرفَين على الخسائر، ونزوح البلدات الجنوبية في لبنان، ونزوح أكثر من 80 ألف مستوطن في شمال إسرائيل. وحتّى لا تُنفّذ تهديداتِها، اشترطت تلّ أبيب على الجانب اللبناني الالتزام بقرار مجلس الأمن 1701، بانسحاب مقاتلي حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وأن تكون المنطقة الحدودية منزوعة السلاح، تحرُسها قوات أممية، والجيش اللبناني؛ أي هدفها فصل الحرب في غزّة عما يجري في حدودها الشمالية، الأمر الذي يرفضه الحزب بشدّة. من الواضح أنّ الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو، يريد توسيع رقعة الحرب شمالاً للهروب من أزماته المتعدّدة المستويات؛ منها فشل القضاء على القوّة العسكرية لـ"حماس" في غزّة، وهو ما اعترف به وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، وتسبّب في شقاق داخل الحكومة، بين نتنياهو وغالانت، وانسحاب رئيس هيئة الأركان السابق بيني غانتس من حكومة الطوارئ، ودعوته إلى انتخابات مُبكّرة. وهناك التحفّظ الأميركي على عملية رفح، وتأخير شحنة الأسلحة مدّة شهرَين بسبب عدم التزام تلّ أبيب بالشروط الأميركية، وهي تخفيض عدد القتلى المدنيين في رفح، وإدخال المساعدات الإنسانية، وسلامة قوافل الإمداد، وعدم استهداف الملاذات الإنسانية. تعنُّتُ نتنياهو أمام الشروط الأميركية، وفي الوقت الذي يحاول فيه غالانت إقناع واشنطن بتحرير إرساليات الأسلحة، يُربِكُ المؤسّسة العسكرية، ويزيد حالة الانقسام داخل دوائر القرار الإسرائيلي. فنتنياهو يرغب في الهروب من فشله في غزّة إلى الأمام، انتظاراً لتغيير في سياسات واشنطن يصاحب الاستحقاقات الرئاسية المُقبلة. يضاف إلى ما سبق، اقتراب صدور قرارٍ في محكمة العدل الدولية يدين إسرائيل بالقيام بإبادة جماعية في قطاع غزّة، وطلبات لمحكمة الجنايات الدولية بإصدار مُذكّرات اعتقال نتنياهو وغالانت.
قرار المواجهة المفتوحة مع حزب الله ضرب من الجنون، وقد يفتح الباب أمام تطوّراتٍ ليس في مقدور تلّ أبيب، ولا حتّى واشنطن، السيطرة عليها. ورغم تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بقدراتهم على تحطيم مقدّرات حزب الله، إلا أنّ مسؤولين سابقين في الجيش يقولون إنّه ليس لدى إسرائيل خطّة لحماية منشآتها في خليج حيفا أو ديمونة، وأنّ هناك عدم ثقة بقدرة منظومات الدفاع والقبّة الحديدية ومقلاع داوود على مواجهة المُسيّرات والصواريخ قصيرة المدى، لأنّها مصمّمة لمواجهة الصواريخ بعيدة المدى (حيتس). استفزَّ حزب الله الإسرائيليين مراراً بالعمق الذي وصلت إليه الصواريخ والمُسيّرات، وبقدرتها على إصابة أهداف استراتيجية، كما أنّ تهديد نصر الله بقدرة صواريخه على الوصول إلى مناطق أعمق، في الجليل وحيفا وصفد، ترافق مع عرض فيديو، صوّرته مسيّرة "هدهد 3" الإيرانية، لأماكن حساسة بإحداثياتها، وبالتأكيد، هي جزء يسير من المعلومات الأمنية التي استطاع الحصول عليها، كما أنّ الحزب، وخلال فترة التصعيد منذ "طوفان الأقصى"، طوّر قدراته على المواجهة، ويمتلك عدداً كبيراً من المقاتلين المدرّبين، الذين يصعب رصد أماكنهم، فضلاً عن قدرته على تجنيد مقاتلين شيعة من جنسيات مختلفة.
قرار المواجهة الإسرائيلية المفتوحة مع حزب الله ضرب من الجنون، يفتح الباب أمام تطوّرات ليس في مقدور تلّ أبيب، ولا حتّى واشنطن، السيطرة عليها
لذلك، تعمل الإدارة الأميركية على لجم إسرائيل عن توريطها في الحرب، فهي تسعى إلى التهدئة الفوريّة في المنطقة بحثاً عن إنجاز يُرجّح كفّة بايدن في الانتخابات في مواجهة خصمه ترامب، لكنّها في الوقت نفسه تضغط على الجانب اللبناني عبر مبعوثها، الإسرائيلي الأصل، عاموس هوكشتاين للقبول بتطبيق قرار ترسيم الحدود البحرية في هذا التوقيت، وفصل الساحة اللبنانية عما يجري في غزّة. في كلّ الأحوال ستدعم واشنطن إسرائيل، وهذا ما قالته شخصياتٌ رفيعةٌ في الإدارة الأميركية، بحسب "سي أن أن" خلال لقاء مع مسؤولين إسرائيليين الأسبوع الفائت. بالنسبة لحزب الله، فيعنيه عدم انتصار إسرائيل على "حماس"، لأنّ ذلك يعني تفرّغها لمواجهته، كما أنّ الحزب هو جبهة إيران الأساسية في المنطقة، وهو الحليف التابع الأكثر ولاءً، إذ صرّح أمينه العام مراراً بتبعيته لولاية الفقيه، وبالتالي، هو يعمل ضمن محور المقاومة، الذي يخصّ المشروع الإيراني، ولن تتخلَّى عنه طهران رأسَ حربةٍ في مواجهة إسرائيل، وقوّةَ ردعٍ لضمان عدم استهداف مشروعها النووي، وللحفاظ على نفوذها ومخطّطها في إرباك الإقليم بمليشياتها، وأن تكون عنصراً أساسياً في أيّ تسويات تخصّ المنطقة.
حسب تقرير صادر من البنتاغون، هناك عملية عسكرية إسرائيلية في منتصف الشهر المقبل (يوليو/ تمّوز)، من المتوقّع أن تكون مُحدودة استناداً إلى ما سبق، خاصّة أن لا بوادر تشي بإنهاء الحرب في غزّة في المدى المنظور، رغم أنّ احتمال اندلاع مواجهات مفتوحة قائم في ظلّ وجود حكومة إسرائيلية يقودها مغامرون مثل نتنياهو. يحتاج الإسرائيليون إلى هدف استعراضي، مثل مطار بيروت. ومن المضحك أن تورّط إسرائيل مواقع غربية مرموقة مثل "ذا تلغراف" (13 إبريل/ نيسان الماضي) في نشر معلومات (قديمة) عن وجود مخازن أسلحة إيرانية ضخمة في المطار تخصُّ حزب الله، وهو ما نفته الحكومة اللبنانية، ما يجعله هدفاً مقبولاً إعلامياً يعلن نتنياهو تحقيقه، ولا يستفزّ ردّاً عنيفاً من الجانب اللبناني، حيث تواجه الحكومة الإسرائيلية انشقاقات وضغوطاً داخلية من المتمرّدين فيها، إضافة إلى ضغط كبير من الشارع، ودعوات إلى انتخابات، ودعوات من الهستدروت (نقابات العمال الإسرائيلية) إلى عصيان مدني؛ لذلك، قد يكون الخيار الإسرائيلي الممكن تأجيل الحرب على حزب الله، والاكتفاء بضربة استعراضية، تحفظُ ماء وجه نتنياهو وائتلافه.