"الهسبرا" الإسرائيلية: احتضان اللاسامية وتعزيز الإسلاموفوبيا
لم يستيقظ المجتمع الإسرائيلي، ولا مؤسّسات الدّولة الرّسميّة، من هول صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأول. ومع انهيار الإطار المنطقي والتحليلي المسيطر على الخطاب الرسمي والشعبي في العقدين الأخيرين، والذي يقوم على أن إسرائيل قادرة على الاستمرار في إدارة الصراع مع أقل تكلفة ممكنة، بل وعقد الاتفاقيات الاقتصادية وتطبيع العلاقات مع الدّول العربيّة، في تجاهل تام للمعاناة المتزايدة للشعب الفلسطيني، تحت وطأة الاحتلال.
منذ الأيام الأولى للعدوان على قطاع غزّة، ومع انكشاف حجم الدمار والخسائر في الأرواح التي تكبّدها المجتمع الإسرائيلي، إضافةً إلى العدد الكبير من الأسرى والمختطفين، تلقّت إسرائيل دعماً غير مسبوق وغير محدود من دول حليفة لها، في مقدمتها الولايات المتحدة، وتضمن إعطاء الضوء الأخضر لشن عدوان على غزّة في سبيل إخضاع حركة حماس.
على مدار الأسبوع الأول للحرب، اعتمدت إسرائيل على الدعمين المادي والمعنوي الخارجيين، لكسب الشرعية الدولية لعمليةٍ عسكريةٍ واسعة من دون تقديم أي أهدافٍ محدّدة أو صورة واضحة عن مستقبل غزّة. ولذلك تجاهلت إسرائيل الرأي العام العالمي في الأسابيع الأولى، مدعومة بالأداء المنحاز والرديء للصحافة العالمية التي تبنّت الرواية الإسرائيليّة بالكامل، ليس فقط في ما يتعلّق بالهجوم الّذي شنّته حركة حماس على مستوطنات ما يُسمى غلاف غزّة بوصفه هجوما منزوع السياق، لا يهدف إلّا للإرهاب المرتبط بعقيدة لاساميّة، بل أيضًا بشرعيّة الرّد الإسرائيليّ الوحشيّ على الحجر والبشر في غزّة. وبالطّبع، كل الوقائع المثبتة عن الواقع الكولونيالي ونظام الفصل العنصري الذي تطبّقه إسرائيل على الفلسطينيين في جميع مناطق وجودهم قرابة العقود الخمسة الماضية، ناهيك عن الواقع الاستعماري الاستيطاني الذي سبقها، لم تعد مهمّة لماكينة البروباغندا.
الدعم الذي تلقته إسرائيل في الأسابيع الأولى مكّنها من ارتكاب مجازر في حق الشعب الفلسطيني في غزّة
الدعم الذي تلقته إسرائيل في الأسابيع الأولى مكّنها من ارتكاب مجازر في حق الشعب الفلسطيني في غزّة، إضافةً إلى استهداف البنى التحتية الحيوية وتجويع أهل القطاع غير مكترثةٍ بالقانون الدولي الإنساني أو لتعرّضها لأي انتقاد جرّاء استهداف المدنيين. ولكن مع استمرار العدوان العنيف على غزّة، ومع توافد الصور لحجم الدمار والخسائر البشرية من الأطفال والنساء والشيوخ التي خلّفتها هجمات القوات الإسرائيلية، وانكشاف الستار عن مجازر كثيرة راح ضحيتها مئات من المدنيين، خرجت الشعوب العربية، بل وشرائح واسعة في مدن العالم، في مسيرات حاشدة تنديداً بالعدوان الإسرائيلي، رافضة صمت العالم على هول الكارثة الإنسانية في غزّة.
مع استمرار الضغط الشعبي الكبير للشارع العربي والأجنبي على الرأي العام العالمي والقيادات السياسية، بدأت شرعية الخطاب الإسرائيلي في التصدّع، وأصبح من غير الممكن تجاهل الشارع، ما أجبر إسرائيل على استنهاض منظومة "الهسبرا" أو البروباغندا الإسرائيلية، في محاولة للحفاظ على شرعية العدوان أو "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، كما صرح رؤساء الدول الكبرى. تدير هذه المنظومة بشكل مركزي المؤسّسات الرسمية في الدولة، وتستقطب المجتمع المدني الإسرائيلي، إضافةً إلى أذرُع الحركة الصهيونية في أوروبا وأميركا، في سبيل ذلك.
تعتمد استراتيجية البروباغندا الإسرائيلية في المعركة على الرأي العام العالمي على ركيزتين أساسيتين: الأولى تصوير النضال الفلسطيني "إرهابا لاساميا" و"نازيا" يهدف إلى القضاء على اليهود، والآخر هو تعزيز الإسلاموفوبيا في الدول الأوروبية لصبغ النضال الفلسطيني بصبغة دموية لا تختلف عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وبهذا تقطع إسرائيل الطريق أمام أي تعاطف أو مناصرة للقضية الفلسطينية.
وليست هذه الاستراتيجية وليدة اللحظة، فهي متواصلة على مرّ الزمن في صياغة التصور الغربي للصراع، إذ تعمل إسرائيل على مدار العقد الأخير على توسيع تعريف مصطلح اللاسامية، عن طريق إدراج أي انتقاد يوجّه إلى دولة إسرائيل، طابعها الإثنوقراطي، أو سياساتها الاحتلالية التوسّعية، على أنّه بالضرورة معادٍ لليهود، لأنه يهدف إلى "تقويض" دولتهم واستهدافهم لاستكمال المشروع النازي للرايخ الثالث. تعمل إسرائيل على تحقيق هذا الهدف من خلال صانعي القرارات في المؤسّسات الدولية والأكاديمية لتبنّي التعريف الإسرائيلي الجديد للاسامية، إضافة إلى تفعيل المنظمات الصهيونية العالمية الضغط المادي على المؤسّسات الإعلامية والمدنية لتبنّي هذا التعريف وإقصاء الأصوات النقدية تجاه سياسات إسرائيل.
يهدف الخطاب الإسرائيلي إلى نزع الشرعية الأخلاقية عن النضال الفلسطيني، بمخاطبة عقدة الذنب لدى الأوروبيين جرّاء ارتكابهم المحرقة النازية
في مقابل هذه الجهود، عملت الأحزاب السياسية الحاكمة في إسرائيل، وفي مقدّمتها حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، على توطيد العلاقات مع حركات وأحزاب يمينية شعبوية، خصوصا في شرق أوروبا ومركزها. إذ تحمل معظم هذه الحركات فكرا معاديا لليبرالية الديمقراطية وحقوق الإنسان، إضافةً إلى كراهية المهاجرين والمناداة في الفوقية العراقية البيضاء التي تشكّل الأساس والدفيئة الفكرية للتيارات اللّاسامية في العالم.
وجدت القيادة السياسية في إسرائيل في هذه الحركات شريكاً استراتيجياً لبثّ دعايتها المعادية للفلسطينيين، والحصول على الدعم المعنوي لتأسيس نظام الفصل العنصري الإسرائيلي الذي يقوم على أُسس أيديولوجية مشابهة، متغاضين بذلك عن الأفكار اللاسامية الصريحة التي تبثّها هذه الحركات ذاتها. إضافةً إلى ذلك، شهدنا في فترة ولاية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، محاولات حثيثة من إسرائيل لمخاطبة (واستمالة) اليمين الأميركي المتطرّف الداعم لترامب، الذي يحمل أفكارا مشابهةً لنظيره في أوروبا الذي يقوم على أساس الفوقية البيضاء المعادية للسامية، وللشرق عموماً. أدّى هذا التقارب إلى نشوء شرخ في العلاقات بين الدولة الإسرائيلية والجاليات اليهودية في أميركا، التي تعدّ غالبيّتها تقدُمية داعمة للحزب الديمقراطي. وإلى ذلك، غضّت الحكومة الإسرائيلية الطرف عن نشوء حركاتٍ تحمل فكرا معاديا للسامية، عدا عن مظاهر استهداف واضح لليهود، والتصريحات العنصرية من سياسيين في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا مقابل دعم هذه الدول سياسات إسرائيل في المنطقة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويهدف الخطاب الإسرائيلي إلى نزع الشرعية الأخلاقية عن النضال الفلسطيني، بمخاطبة عقدة الذنب لدى الأوروبيين جرّاء ارتكابهم المحرقة النازية، وذلك في سبيل إسقاط المسؤولية الأخلاقية والتاريخية جرّاء الكارثة الإنسانية التي ارتُكبت ضد اليهود على العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وفي هذا إعطاء الحق الكامل لإسرائيل في ارتكاب أفظع أنواع جرائم الحرب ضد الفلسطينيين في غزّة.
عملت إسرائيل على تصوير الصراع مع العرب دينيا بين المسلمين واليهود، وليس صراعا سياسيا تحرّريا ضد قوى كولونيالية
تقوم إسرائيل بذلك اليوم من خلال استجلاب مشاهد المحرقة النازية ومساواتها بهجوم حركة حماس في الخطابات الرسمية وغير الرسمية، من خلال منظومة البروباغندا، إلى وصم الحركة بالنازية بعد كل جملة، وليس ذلك فحسب، تمتدّ شيطنة المقاومة الفلسطينيّة إلى شيطنة الفلسطينيّين بأطيافهم السياسية كافة، بغرض نزع إنسانيتهم. وبذلك يصبح الفلسطينيون والداعمون لتفكيك الاستعمار الإسرائيلي لاساميين أو اللاساميين الوحيدين. وفي المقابل، يتم احتواء الحركات اللاسامية العنصرية.
وقد شهدت أوروبا وأميركا خلال العقدين الأخيرين موجات متقطّعة من الهجرة من الدول العربية والإسلامية، ما ساهم في زيادة أعداد الأقليات المسلمة في العواصم والمدن الكبرى، وبدأت تطالب بحقوقها الثقافية والدينية. تزامنت هذه الهجرات مع تصاعد قوى ظلامية في منطقة الشرق الأوسط، تدّعي تطبيق الإسلام والشريعة بهدف زعزعة استقرار المنطقة، ربما أشهرها تنظيم الدولة الإسلامية الذي تبنّى عمليات كثيرة ضد مدنيين في مدن أوروبية. وساهمت هذه التغيرات في ارتفاع منسوب الإسلاموفوبيا في أوروبا واعتبار الإسلام دينا منغلقا، ولا يشارك الثقافات الأخرى في أي من المبادئ والأعراف، كما أنه غير عقلاني ويشجّع الإرهاب. ولم يقتصر الازدياد في مظاهر العداء للإسلام والمسلمين على النخبة السياسية، بل وصلت إلى المجتمع المدني والإعلام الغربي الذي بات يردّد هذه العبارات، بزعم أنها منطقية ومقبولة. في المقابل، شهدت الولايات المتحدة تصاعداً مستمرّاً في القوى والخطاب المعادي للإسلام بعد أحداث "11 سبتمبر"، واكتسب شعبية مع بدء المد الشعبوي في العالم.
وقد عملت إسرائيل على تصوير الصراع مع العرب دينيا بين المسلمين واليهود، وليس صراعا سياسيا تحرّريا ضد قوى كولونيالية. ومع تصاعد قوى اليمين الديني في إسرائيل وانزياح الخريطة السياسية نحو اليمين المتطرّف خلال العقدين الأخرين، بات هذا هو الخطاب الرسمي للدولة. خصوصاً أن هذا اليمين الإسرائيلي الجديد يحمل مشروعا مسيانيا دينيا يهدف إلى تأسيس مملكة يهودا وبناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى.
تشهد القضية الفلسطينية والمطالبة برفع الحصار والعدوان عن غزّة التفافاً شعبياً عالمياً كبيراً، خصوصاً بعد المجازر التي ارتكبتها إسرائيل
وشكّل تصاعد العدائية تجاه الإسلام والمهاجرين المسلمين في المدن الأوروبية، في السنوات الأخيرة، بيئة خصبة للمؤسّسات الصهيونية العالمية لنشر خطابٍ مفاده أن إسرائيل، التي تمثل مبادئ الغرب وتشاركه ثقافتها، تتعامل مع القوى الإسلامية الظلامية، والانتصار لإسرائيل هو انتصار للغرب ومبادئه. وذلك عن طريق صبغ المقاومة الشعبية الفلسطينية بصبغة دينية إرهابية، وتأليف الأكاذيب وتزوير الحقائق في سبيل إحداث التشابه بينها وبين الجماعات الإرهابية كداعش. وبهذا يصبح كل فلسطيني وكل مسلم مناصر للقضية الفلسطينية داعشياً، حتى يثبت غير ذلك.
تعمل اليوم الوكالة الصهيونية العالمية على نشر حملة إعلامية في المدن الأوروبية تحت عنوان "أنتم اللاحقون"، في محاولة لأن ترمز إلى الرأي العام الغربي، أن الإسلام المتطرّف سيصل إليكم في نهاية المطاف. لذلك عليكم إعطاء الدعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل في حربها على "الإسلام الإرهابي". وتشنّ إسرائيل حرباً إعلامية ضد كل أجنبي يبدي دعمه للقضية الفلسطينية لكونه "يدعم الإرهاب"، ومن أهدافهم أخيرا الناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ.
تشهد القضية الفلسطينية والمطالبة برفع الحصار والعدوان عن غزّة التفافاً شعبياً عالمياً كبيراً، خصوصاً بعد المجازر التي ارتكبتها إسرائيل، والتي أخرجت الملايين في العالم إلى الشارع. ولكن من أجل التأثير على الخطاب العالمي، لا بد من تحليل الأسس الفكرية لخطاب البروباغندا الإسرائيلية، وتقصّي العلاقات الخفية بينه وبين من يردّده في العالم من غير الإسرائيليين، وذلك لفهم طبيعة العلاقات بين الغرب وإسرائيل، ولتطوير خطاب ندّي يرتكز على الحقائق التاريخية وعدالة القضية الفلسطينية، ويعمل على هدم الأفكار العنصرية ضد الفلسطينيين والمسلمين والعرب.