الوحدة... حديقتي السرّية

31 أكتوبر 2024

(محمد العامري)

+ الخط -

شكراً لكلّ من أقنعني أنني وحدي. نعم، شكراً لكلّ من أدار ظهره، أو غاب حين كنتُ في أمسّ الحاجة، لكلّ من حمل معه وعوداً ذابت مع الأيام كأنها لم تكن، وترك في القلب فراغاً موحشاً. لقد علّمتني هذه الوحدة درساً ثميناً؛ أن الوحدة ليست قيداً يُفرَض على القلب، بل اختيار ناضج ينبع من فهمٍ أعمق للنفس، وفصل بين الضرورة والحاجة، وبين العابر والباقي.

في فترة ما خُيّل إليّ أن الوحدةَ عقوبةٌ يصدرها القدرُ على من لا يُجيد التماهي مع إيقاع الآخرين، أو على من لا يتقن فنّ المجاملات الاجتماعية، ورغم أنني نشأت وحيدةً، وأحبّ وحدتي، جدّاً، وأعيشها عزلةً حقيقيةً، إلّا أنني في فترة لاحقة، لم تدم طويلاً، شعرت بالخوف من الوحدة، فكنت أهرب منها كما يهرب المرء من ظلّه، أخشى اللحظة التي أجد نفسي فيها بلا أحد، بلا صوت يملأ الفراغ، وبلا أكتاف أستند إليها حين أثقلني التعب، وخصوصاً بعد رحيل شقيقي الأكبر رحمه الله.

ما لم أكن أعرفه في تلك الفترة القاسية أن الوحدة، في أحيان كثيرة، ليست سوى مرآة صادقة نواجه فيها أنفسنا بعيداً عن تشويش الخارج. في لحظات الوحدة، اكتشفتُ أن الأصوات التي كانت تملأ حياتي لم تكن دائماً صادقة، وأن الازدحام الذي اعتدته كان يُخفِي بين طيّاته شعوراً أعمق بالغربة.

وجدت نفسي فجأةً أمام فرصة نادرة؛ أن أُعيد ترتيب علاقتي بنفسي. كنتُ أحسب أنني وحيدة، لكنني اكتشفتُ أنني لم أكن كذلك أبداً. كان هناك صوتٌ خافت في أعماقي، ينتظر بصبرٍ أن أصمت عن العالم الخارجي لأسمعه بوضوح. ذلك الصوت الذي يُذكّرني بأنني كافية، وأن وجودي لا يعتمد على أي شخص آخر.

ليست الوحدة دائماً فقداً للآخرين، بل في أحيان كثيرة هي استعادة للنفس. حين اعتزلت الضجيج، أدركت كم كنتُ بحاجة إلى تلك المساحة الهادئة لأتنفّس بعيداً عن توقّعات أحد ما، لأتأمّل أحلامي التي طمَرتها المجاملات اليومية، ولأعيد تقييم الأشياء التي كنت أظنّها ضروريةً. الوحدة، في حقيقتها، ليست انسحاباً من الحياة، بل وقفة تأمّلية تعيد ترتيب الفوضى في الداخل.

ومع الوقت، صرت أرى في الوحدة هدية. أصبحتُ أتذوّق طعمَ الهدوء الذي يأتي بعد العاصفة، وأجد في الفراغ فرصةً لملء ذاتي بطرق أكثر صدقاً. تعلّمت أن أكون صديقي الأول، وأن أحتفي بأوقاتي الخاصّة كما يحتفي الآخرون باللقاءات الجماعية. ليس لأنني لا أحتاج إلى الآخرين، بل لأنني أدركت حاجتي إلى نفسي أولاً، وأن وجودي بين الناس يجب أن يكون اختياراً واعياً، لا وسيلةً للهروب من الخوف من الفراغ.

لم أعد أخشى الوحدة كما كنتُ في تلك الفترة من حياتي. صارت رفيقتي التي تعلّمني أن الحُبّ يبدأ من الداخل، وأن السلام الحقيقي هو أن تكون قادراً على البقاء مع نفسك من دون أن تشعر بالنقص، وأنها لا تعني الانعزال عن الناس بقدر ما تعني القدرة على البقاء مع ذاتك بسلام.

لم أعد ألهث وراء الحشود كي أشعر بالانتماء، لأنني أدركت أن الانتماء الأهم هو ذاك الذي يكون بينك وبين نفسك. عدّت إلى شعوري القديم، الحقيقي، الذي نشأت عليه في فترات مبكّرة من حياتي.

في الرحلة، أدركت أمراً مهماً، أننا حين نعتمد على الآخرين لتعويض نقص في ذواتنا، نصبح أسرى لذلك التعلّق. أمّا حين نتعلّم أن نجد في الوحدة مصدراً للسكينة، فإن علاقاتنا بالآخرين تتحوّل مساحةً من العطاء الخالص، لا وسيلةً لتسكين الخوف. يصبح وجود الآخرين حولنا زينةً للحياة، لا طوقَ نجاة.

واليوم، أقول بامتنان: شكراً لكلّ من أقنعني أنني وحدي. فقد تعلّمت أن الوحدة ليست حكماً قضائياً يُنفذ عليّ، بل خيار أختاره حين أحتاج إلى استراحة من الركض خلف الحياة. تعلمت أن أكون كافية لنفسي، وأن أجد في ذاتي ما كنتُ أبحث عنه طويلاً في الآخرين، وأن الوحدة ليست سجناً نُحبس فيه، بل حديقة سرّية لا يدخلها إلا من تعلم كيف يُحبّ نفسه.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.