الوحشية والإبادة في قناع الضحيّة
حتى تخوض حرب تطهير عرقي دموية ضد شعبٍ من طرفٍ واحدٍ بضمير مرتاح ومن دون مسؤولية عن جرائم الحرب التي ترتكبها بحقّ مدنيين عزّل محاصرين باحتلالك الجائر، وتكون على حقٍّ في ارتكابك هذه الجرائم، بل وأكثر من ذلك، أن تتحوّل، رغم كل الجرائم بحقّ الإنسانية التي ترتكبها، من معتدٍ إلى ضحية، لا تحتاج سوى إلى شيطنة الشعب الذي ترتكب بحقّه جرائمك. وإذا حصلت على دعم الدول الكبرى، واعتبرتك معتدى عليه، وغطّى إعلامها عدوانك السافر، وأخرس كل صوت يحتج على هذا العدوان، لأنك الضحية المثالية التاريخية، واعتبر حتى ألوان راية الشعب الذي تقتله عنواناً للإرهاب، فإنك تكون قد كسبت الحرب، وأصبحت جرائمك ضد الإنسانية مشروعة، لأنها دفاعٌ عن النفس برأي المدنية الحديثة. وأما باقي العالم، فهي دولٌ وشعوبٌ فائضةٌ عن الحاجة، ولا أهمية لما يعتقد.
هذا ما فعلته وتفعله إسرائيل بالفلسطينيين في قطاع غزّة ومن ورائها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إنها حرب "الحضارة ضد الوحشية" وإسرائيل تخوض "حرب جميع الدول المتحضّرة"، حسب أقوال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ولم يتردّد وزير دفاعه، يوآف غالانت، بوصف الفلسطينيين بـ"وحوش بشرية ونتصرّف بناءً على ذلك"، أي القتل، وما الذي يمكن فعله مع الهمجيين والوحوش البشرية التي تسكن غزّة؟! لا أحد يختلف بأن من الضروري إبادة هذا النوع من البشر المجرمين والقضاء عليه، فهو ليس تهديداً لإسرائيل فحسب، بل هو يشكّل تهديداً للحضارة وللدول الديمقراطية بأسرها، والتي تخوض إسرائيل هذه الحرب بالنيابة وللدفاع عنهم.
إنه استعارة للخطاب الاستعماري التقليدي بأسوأ وأحطّ صيغه، الخطاب الذي لا يرى الآخرين، سوى بشر أدنى لأنهم ليسوا مركز هذا العالم، وكان على العالم المتحضّر أن يستعمرهم من أجل جعلهم متحضّرين، وعندما يرفضون الحضارة (يرفضون الاستعمار) يجب قتلهم لأنهم متوحّشون. والمفارقة المضحكة المبكية أن الدول الاستعمارية الكبرى التي تدعم هذا الخطاب الإسرائيلي وتكرّره، هي ذاتها الدول التي ارتكبت الجرائم الكبرى والإبادة الجماعية بحقّ الشعوب التي استعمرتها، بخطاب استعلائي دُمّرت باستعماله بلدان واسعة خارج أوروبا (الحضارية)، كل هذه الجرائم ارتكبتها الدول الاستعمارية كانت لإخراج هذه الشعوب من وحشيّتها.
صراع في غاية الوضوح "الحضارة ضد الهمجية"، وهي الحرب التي لا تستطيع الدول المتحضّرة سوى تأييدها، ودعم من يخوضها باسمهم وبدلاً عنهم
الخطاب الاستعماري المتعالي فوق البشر المتوحشين درسٌ قديم، قدم التجربة الاستعمارية ذاتها، ورغم انتقاده وتفكيكه من مفكّرين غربيين كثيرين، منذ زمن طويل، لكن كل مرّة تحتاجه الدول الغربية، تتم استعارته بشكلٍ أو بآخر، فقد استعمل الخطاب ذاته، عندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، لجلب الديمقراطية (الحضارة) لشعوبها، واليوم، كلنا نعرف النتيجة التي آلت إليها الجهود الأميركية لجلب الحضارة على ظهور الدبابات الأميركية للبلدين.
تصغير البشر وشيطنتهم وإخراجهم من دائرة البشر، عبر خطاب القوة، المدعوم بامتلاك ميديا هائلة، يعطي الوصفة المثالية للقضاء على البشر المتوحّشين الذين يهدّدون الحضارة الإنسانية. إنه صراع في غاية الوضوح "الحضارة ضد الهمجية"، وهي الحرب التي لا تستطيع الدول المتحضّرة سوى تأييدها، ودعم من يخوضها باسمهم وبدلاً عنهم. إنه التوصيف الإسرائيلي ـ الأميركي ـ الأوروبي لما يجري من عدوان إسرائيلي على غزة.
هل هناك كلام آخر يمكن قوله في هذه الحالة، كأن يكون هناك دولة، مثل دولة إسرائيل تحتلّ الأراضي الفلسطينية؟ وأن يكون هناك جرائم ترتكبها هذه القوّة الاستعمارية يومياً بحقّ الفلسطينيين وأراضيهم ومقدّساتهم؟ وأن تكون دول الاحتلال تُنكر حقّ الفلسطينيين بأرضهم وتمنعهم من تقرير مصيرهم؟ وليس هناك اعتداءات يومية على الفلسطينيين وقتلهم ونهب المستوطنين أرضهم؟ وليس هناك جريمة مؤسّسة لإسرائيل عنوانها طرد الفلسطينيين من ديارهم في حرب العام 1948 وعدم السماح لهم بالعودة إلى ديارهم بعد انتهاء الحرب؟ ولم تسرق إسرائيل أملاك الفلسطينيين واعتبرتها أملاك غائبين، وكأنهم غادروا بإرادتهم، واستخدمتها في بناء دولتها؟ وليس هناك حصار أكثر من 17 عاماً على مليوني فلسطيني في قطاع غزّة، وإجبارهم على العيش في معتقل جماعي، يقنّن عليهم فيه المواد الغذائية والوقود وحتى الأدوية، بوصفها كيانا معاديا؟ وغيرها أسئلة كثيرة عن جرائم دولة الاحتلال التي ارتكبت بحقّ الفلسطينيين وبحقّ غيرهم من شعوب دول الطوق.
تبدو الصورة عند الغرب كأن إسرائيل دولة اسكندنافية حيادية، لم تدخل حرباً منذ عشرات السنين، وفجأة، يهاجمها المتوحشون الفلسطينيون
تبدو الصورة عند الغرب كأن إسرائيل دولة اسكندنافية حيادية، لم تدخل حرباً منذ عشرات السنين، وفجأة، يهاجمها المتوحشون الفلسطينيون الذين جاؤوا من بلاد بعيدة، ليستبيحوا دولة إسرائيل ومواطنيها المسالمين. إنها أكبر عملية تزييف وكذب وقحة وعلنية ومهينة للعقل البشري، تمارسها الدول التي تعتبر نفسها "العالم المتحضر".
إذا كان قتل المدنيين مداناً في الصراعات المسلحة، وهو بالتأكيد كذلك من دون تلعثم، لكنه لماذا مدان من "الجهة المتوحّشة"، وهو دفاع عن النفس من الجهة "المتحضرة"؟! مقارنة أرقام المدنيين الذي سقطوا من الفلسطينيين والإسرائيليين تدعو إلى الفزع، فحتى كتابة هذه السطور، خمسة فلسطينيين مقابل كل إسرائيلي، وعندما ينتهي هذا العدوان الوحشي ستكون النسبة أكبر بكثير، عدا عن العقاب الجماعي الذي يتعرّض له كل المقيمين في غزّة. وهذا يعني أن قيمة حياة الفلسطينيين غير مساوية لحياة الإسرائيليين، فليس لحياة الفلسطينيين قيمة مقارنةً بحياة الإسرائيليين، ومن دون هذا المقياس المختلّ لقيمة البشر في الطرفين، لا يمكن تبرير الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة بذريعة "الدفاع عن النفس".
في هذا الصراع، هناك أساس مكوّن، صراع ضحية وجلاد، وحتى عندما ترتكب الضحية أخطاء وخطايا، لا تنقلب المعادلة وتنقلب أماكن المتصارعين. فما يجري على الأراضي الفلسطينية ليس صراعاً بين دولتين على خلافٍ حدودي، بل هو صراعٌ بين احتلال وشعب يقاومه. إنه التوصيف الحقيقي للصراع. أما قلب الحقائق، وتحويل إسرائيل إلى ضحية مهدّدة وجودياً بشكل دائم، فإن هذا يعطيها الحقّ بإبادة الفلسطينيين لحماية نفسها. وهذا ما يجري اليوم في غزّة تحت بصر العالم المتحضّر وموافقته.