الورقة البيضاء
إنها كابوس كل كاتب، رعبُه الدفين، أن تنضب مياه إلهامه ذات يوم، أن يقصد ينبوع كلماته، فيجده جافّا، يابسا، لا أثر لحياة فيه، أن يفتح نافذة مخيّلته فيجد وراءها حائطا مسدودا، أو أن تطلّ شرفة أفكاره على مشهد ثابت وحيد لا يتبدّل. لستُ أدري إن كان محترفو المهن الأخرى يشعرون بالمخاوف نفسها، هل يخشى الطبيب مثلا ألا يتمكّن من معالجة مريضٍ يؤمّه؟ أم هل أنّ الكتابة، ومهما قلنا عنها، ليست مهنة أو حرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، كما يصرّ بعض الكتّاب على تصويرها.
يكفي مثلا أن تطبع عبارة "ورقة بيضاء" على محرّك غوغل، حتى تطالعك مئات الوصفات والنصائح والإرشادات إلى كيفية محاربة "سندروم" الصفحة البيضاء. بالفرنسية يسمّى Syndrome (writer's block) أي أعراض أو متلازمة، لذا فهناك إشارة إلى وجود علاج، وصفة، خطوات ينبغي اعتمادها لمقارعة ذاك القلق أو التخلص من تلك الأعراض. هنا، تحضر أقوال كتّاب عُرفوا بغزارة إنتاجهم، من أمثال إرنست همنغواي وجون شتاينبك ونورمان ميلر ومارك توين وهوراكي موراكامي... إلخ، حيث نقرأ عن طريقة عملهم وآلية تأمين استمرارهم في الكتابة. بهذا الصدد، يرى الكاتب الإنكليزي، فيليب بولمان، أن استبدال كلمة كاتب بسمكري ستفهمنا الكثير عن معضلة الورقة البيضاء التي يدّعي بعض الكتّاب مواجهتها والتي، برأيه، "تصيب الهواة أو الذين لا يكتبون بجدّية. في المقابل، هناك فكرة الإلهام التي يعشقها الهواة. يمكننا القول إن الكاتب المحترف هو شخصٌ يكتب جيدا عندما يكون ملهَما أو غير ملهَم".
ومع ذلك، ثمّة من كتبوا روايات عن موضوعة الخوف هذا، جاعلين من أبطال حكاياتهم كتّابا عرفوا نجاحا كبيرا في بداياتهم، ثم راحوا يهيمون في صحاري مجدهم الباطل حين دقّت أجراسُ كتابة عمل آخر يتوقعه الجميع متفوقا على الأوّل. الانسداد الإبداعيّ، إذا صحّ التعبير، ليس وهما. والكتّاب لا يعترفون به دوما، ربما لأنهم يعيشونه مرضا يحتفظون بعذاباته لأنفسهم. ليس سهلا على كاتبٍ أن يقول إنه لا يكتب، وبالتحديد حين لا يكون التوقّف عن الكتابة خيارا. أن تتكتّل ضدّك الآلهة لتسلبك قدرتك على الإبداع، نارك. أن تغدُر بك الكلمات، أن تهجرك، ألا تتحالف معك المعاني، أن تفقد الأشياء من حولك حضورها الملهم، أن تتوقف المخلوقات عن مخاطبتك، إلهامك. يا للرعب، حقا. كأنك فقدت منزلك الآمن، مطيّتك، قدراتك، معرفتك، متاعك. ماذا بعد؟ تائهٌ أبدا في المكان الذي ما عاد بإمكانك تسميته، في الصحراء التي تمنع القول ..
**
الورقة البيضاء، أجل، هذا هو الحلّ. الاقتراع، أجل، لكنها بورقةٍ تبقى بيضاء للاعتراض، لتسجيل موقف، للقول إن أيا من المرشّحين لا يمثلني، وإني طامح لشيء آخر أنتم لا تعرضونه عليّ. هذه ليست فرنسا التي عرفتُها، ليست فرنسا التي أتمنّاها بلادا لأبنائي وأحفادي! يقول "د" منفعلا، وأنا أرقب لعابه يتقافز من فمه وعروق رقبته تنتفخ، فالدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية باتت على الأبواب (24 إبريل/ نيسان)، والمرشّحان اللذان تأهلا في الدورة الأولى، رئيس الجمهورية الحالي إيمانويل ماكرون ومرشحة أقصى اليمين، لا يمثلانه، وهو لم ير في المرشّحين الآخرين من لا يثير استياءً أو اعتراضا. لقد انتخبتُ مِلانشون "الغبي"، يُردِف، نكاية بهما، ضد مارين بالأحرى. لم أرد لها أن تكون في الدورة الثانية، للمرّة الثانية على التوالي. أتتخيّلين إلى أين وصلنا؟ واحدة تريد منع ارتداء الحجاب، وآخر يريد إثراء الأغنياء وإفقار الفقراء. أهذي هي فرنسا عصر الأنوار وحقوق الإنسان ومنارة الثقافة؟ وحين أسأله إن لم يكن من الأفضل أن يصوّت لماكرون درءا لخطر احتمال وصول لوبان إلى الرئاسة، يلومني ممتعضا كيف أني لم أفهم: على مَن ما عادوا يملكون صوتا أن يُسقطوا في صناديق الاقتراع ورقة وحيدة تقول لهم لا، والورقة البيضاء وحدها ستفعل.